منذ بدايته، بل حتى منذ ما قبل بدايته، يسير فيلم اللبناني زياد الدويري الرابع والجديد «الإهانة» (أو «القضية رقم 23» إذا فضّلتم عنواناً أكثر حيادية) على حبل مشدود. فالفيلم
الذي يشبه صاحبه أكثر مما يفعل أي فيلم آخر بما في ذلك أفلام السيرة الذاتية، المباشرة أو المواربة
، التي غالباً ما طبعت سينما الحرب اللبنانية، والتي يبتعد منها فيلم الدويري تماماً، هذا الفيلم يتطلع بكل وضوح إلى تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. في «الإهانة» يواجه الدويري – في السيناريو المميز الذي كتبه مع شريكته في العمل منذ وقت طويل، جويل توما- ما يعتبر في لبنان مسكوتاً عنه. ففي الوقت الذي تعارف التكاذب اللبناني المشترك والمتبادل على تلك الحماقة التي تفترض أن السكوت عن حقيقة ما حصل في الحرب هو خير ترياق لها، يأتي فيلم الدويري ليقول العكس تماما: لا بد من قول كل شيء و «إعلان الحداد أخيراً على الحرب» كي يكون في إمكاننا أن نقول إن الحرب انتهت.
ولعل أقوى ما في الأمر هنا هو اختيار الفيلم موضوعاً راهناً لقول هذا. وهو يقوله في منطقين يؤكدان ازدواجية فكرانية الفيلم التي تنطلق من كونه يضع مرايا متجاورة سرعان ما تتحول مع نهاية الفيلم إلى مرايا متقابلة يشاهد فيها المتقابلان صورتيهما وقد برزت ملامح تشير إلى أنهما في نهاية المطاف صورة واحدة لمذنب واحد وبريء واحد، وتوحيد لحماقتين شقيقتين. في هذا السياق الآيديولوجي الذي بدأنا به الكلام هنا فقط كي ننساه بعد قليل حين نغوص في حديث آخر عن هذا الفيلم الأخّاذ، كعمل فني بالتحديد، أشرنا قبل قليل إلى كم أن الفيلم يشبه مبدعه: فهو مثله، وعلى الحبل المشدود الذي اختاره لنفسه يسير قدماً إلى الأمام غير مبال لا بالأصوات الصفراء التي لم يفاجئه زعيقها ونبشها للجثث ورغبتها في التصدي لكل انفتاح لبناني، أو حتى عربي، على زمن العالم، ولا بكل تلك الافتراءات الإعلامية الصاخبة والهادرة للدماء في تكفيريتها الجديدة/ القديمة النابعة من غوص في التحول السياسي (للعجز عن شبيهه: التحول الجنسي!). في «الإهانة» سار الدويري قدماً في خط سيره الفني الذي لم يتوقف عن رفد السينما العربية واللبنانية بأعمال تستثير السجالات بمقدار ما تجدد في اللغة السينمائية وترسخ من دور المخرج كمؤلف/مبدع لسينما تحيّر وتستفز فتدفع إلى التفكير. لكنها قبل هذا وذاك تساهم مرة أخرى في جعل الفن السينمائي اللبناني- والعربي- فناً جميلاً حقيقياً وقوياً حقاً.
الممثلون خارج عاديّتهم
وذلك بالتحديد لأن عودتنا إلى جمالية هذا الفيلم وقوته التعبيرية، حتى خارج أطروحاته السياسية والاجتماعية، تضعنا أمام واحد من الأعمال الفنية الأكثر إكتمالا التي ظهرت في لبنان خلال السنوات الأخيرة. تضعنا في قلب السينما الحقيقية، حيث السيطرة التامة للمخرج ولنصّه المكتوب ولكن ضمن حدود سنعود إليها بعد سطور. ولعل آية ذلك قبل أي شيء آخر، إدارة زياد الدويري لممثليه وهو ما يلفت النظر في هذا الفيلم قبل أي شيء آخر. فالحقيقة أن كاتب هذه السطور دخل لمشاهدة الفيلم متوجساً بعد قراءته أسماء الممثلين. فهم كثيراً ما شوهدوا على شاشات التلفزة اللبنانية وصالوا وجالوا في أدوار وتعبيرات متشابهة إلى حدّ إثارة الضجر إن لم يكن النفور. ولنسمّ هنا الأشياء بأسمائها: عادل كرم مثلاً، أحد شخصيتي الفيلم الرئيسيتين، والذي كنا نعرف الكثير عن مواهبه لكننا نتساءل أين اختفت في كل مرة نشاهده فيها على الشاشة الصغيرة، مهرجاً حينا، نرجسياً حيناً. لكنه هنا بدا شيئاً آخر تماماً، بل بدا أفضل مما في دوره وحضوره البديع في «كاراميل» نادين لبكي. كميل سلامة هو الآخر كنا نسينا منذ زمن بعيد نجاحاته المسرحية الماضية. وديامان أبو عبود وريتا حايك لم يكن قد تبقى في ذاكرتنا منهما سوى تلك الحضورات التزيينية الجميلة على شاشات صغيرة بلهاء. ولكن هنا، على شاشة زياد الدويري، حصلت المعجزة الصغيرة: طوال ساعتين تقريباً أذهلنا عادل كرم وقد تقمص تماماً شخصية المسيحي اللبناني الذي يعيش ماضي القوات اللبنانية بكل جوارحه ليستشف حتى عواطفه الصغيرة من خطابات بشير الجميل، غير آبه حتى للتغييرات الإيجابية التي يخوضها ويدعو إليها «الحكيم»، وريث الجميّل اليوم، مبقياً في زاوية من قلبه وحياته كراهية متفاقمة للفلسطينيين (ولسوف يقول لنا الفيلم مبعثها حتى على الصعيد الشخصي للرجل… على أي حال). هنا بدا أداء كرم في تلك الشخصية البرّانية مدهشاً صادقاً عنيفاً ومنفراً. ولا سيما حين يجابه «خصمه» الفلسطيني ياسر الذي يكبره سنا ويجابه عنفه البرّاني برواقية جوانيّة تألقت على الشاشة إلى درجة فهمنا معها لاحقاً كيف ذهبت إليه جائزة التمثيل في «البندقية»، وهي جائزة كان من العيب ألا يُحتفل بها في بيروت لدى حضور ممثل الدور الفلسطيني كامل الباشا عرض الفيلم في العاصمة اللبنانية!
تاريخ للخيبات والأحقاد
مهما يكن، نحن ما بدأنا الحديث هنا عن الفيلم بالإشارة إلى ما فيه من قوة أداء تمثيلي استثنائي، إلا على سبيل الإشارة إلى القوة السينمائية التي تمتع بها هذا الفيلم الاستثنائي. غير أن قوة التمثيل هذه، ما كان في إمكانها أن تبرز لولا الطريقة التي كتبت بها الأدوار. طريقة ثنائية جدلية يصبح معها كل شخص أساسي في الفيلم، أسير ظروفه وتاريخه وتاريخ خيباته وأحقاده التي تراكمت على مدى صراع عاش تشعبات لا تنتهي طوال ما يقرب من النصف قرن، معبراً عنها. ومن هنا انبنت الشخصيات، الأساسية ولكن العديد من تلك الثانوية أيضا، بناء ديالكتيكياً يرتبط بالمصائر وبقدرة كل شخصية على التعبير عن كوامنها من ناحية، وعما تمليه عليها ظروفها الموضوعية من ناحية ثانية. ومن بين هذا التوغل، النادر في السينما اللبنانية أو العربية، الذي أبدعه الكاتبان في ترسيم حدود الشخصيات كما انفلاتها، بدا السيناريو ذا إيقاع متماسك وتصعيدي – ما عدا في بعض المشاهد التي لا معنى لها كالمشهد مع رئيس الجمهورية الذي اتسّم بمقدار كبير من اللامنطقية، وكذلك مشهد الحوار التلفزيوني مع الدكتور سمير جعجع والذي لم يبد مقنعاً لا شكلاً ولا خطاباً ويفتقر إلى ما هو معروف عن قوة «الحكيم» التعبيرية من دون أن تنسى ضروب التكرار الممل في بعض مشاهد المحكمة والتي لولا هذا التكرار والتطويل، لأتت المحكمة مدهشة إذ تستخدم لمرة أولى في السينما اللبنانية ولمرة نادرة في السينما العربية-، شكلاً ومضموناً في آن معاً، بالتوازي مع التصعيدية التي شاءها للأحداث: فهي تنطلق من حادثة صغيرة وشديدة البساطة، كما الحال مثلاً في فيلم «بابل» لألكسندرو إينياريتو، أحد معلمي الكتابة السيناريستية في السينما الحديثة: خناقة بين صاحب كاراج في حي مسيحي يعيش منغلقاً على ماض لا يريد أن يمضي، وعلى حياة عائلية بسيطة عمادها زوجة محبة وحامل في طفلهما الأول، وبين رئيس عمال فلسطيني يقوده عمله «غير الشرعي» و «غير المسموح» في لبنان اليوم، إلى ذلك الحي المسيحي فيصطدم مصادفةً بالشاب المسيحي الذي ما إن يكتشف أن «العدو» يغزوه اليوم في عقر داره، ثم أكثر من هذا يهينه، في زمن تقول فيه الدعاية الشعبية ان السلطات تتهاون مع الفلسطينيين وان المسيحيين لم تعد لهم كلمة في البلد، حتى ينتفض وقد استعاد كل شياطينه القديمة. بيد أن ما يريده توني ليس أكثر من اعتذار. لكن ياسر العنيد بطبعه والذي لا يقل شعوره بالهزيمة اليوم عن شعور توني، لن يكون من النوع الذي يسهل عليه أن يعتذر. ثم حين يحاول أن يفعل، يجابهه الآخر بشتيمة أقسى وأمر: يعلن عن أمنيته لو أن «شارون أبادكم عن بكرة أبيكم». وهكذا لأن المتجابهين هنا مسيحي لبناني يعيش مخاوفه وأحقاده، وفلسطيني يعيش خيباته وهزيمة قومه، تتحول القضية إلى المحكمة، ومن المحكمة إلى الرأي العام فإلى مجابهات في الشارع… حتى نهاية الفيلم التي تلمح لنا بأن أياً من الخصمين لم ينتصر، وبالتحديد لأن ليس ثمة معركة حقيقية في نهاية الأمر…
مجابهة صحية للمسكوت عنه
في تلك الأثناء، يكون فيلم الدويري قد فعل ما كان يجب أن يُفعل منذ زمن طويل: جابه المسكوت عنه. وجابه حقيقة الأحداث التي عيشت، ليس في البعد السياسي والأيديولوجي الكبير والفاقع والذي سرعان ما يُخمد في كل مرة خوفاً من توسّع الحريق. بل من خلال جوّانية كل فرد من الأفراد الذين عاشوها، أو خيّل إليهم أنهم عاشوها، من طريق الطوائف أو الزعامات أو المتلاعبين بالمصائر من الذين يقدم الفيلم واحداً من نماذجهم من خلال شخصية المحامي الذي- وتلك نقطة قوة وإنصاف أساسية في الفيلم- سيجد في مواجهته في المحكمة، ابنته المحامية التي مقابل تنطحه هو للدفاع عن توني حنا، ستدافع هي عن ياسر الفلسطيني. ولا شك في أن هذه لفتة في الفيلم تبدو شديدة الواقعية على رغم ما فيها من خطّية قد تبدو مفتعلة بعض الشيء على رغم واقعيتها، لكنها تنبهنا في طريقها إلى تلك الأدوار الرائعة والحوارات الإنسانية التي كتبها السيناريو لنساء الفيلم، من زوجة توني حنا التي بمقدار ما تلقي اللوم على خصم زوجها، لما فعله وليس لأنه فلسطيني، تلوم زوجها على ما يفعل بين الحين والآخر، وصولاً إلى المحامية المتسلحة بمنطق مستقبلي مدهش في مرافعاتها أمام المحكمة التي تتحول إلى صراع عائلي مع أبيها المتكالب على دفع المحكمة إلى إدانة ياسر، مستعملاً شتى الألاعيب واستثارة العواطف والتلاعب بالمعلومات السياسية وصولاً إلى التعابير العنصرية…
إن المقابلة بين الأدوار النسائية وتلك الرجالية في «الإهانة» تعطي الفيلم في الحقيقة نكهة غير متوقعة، نكهة نأمل أن تلفت الأنظار لا أن تنطمس تحت وطأة التفسيرات السطحية لفيلم لعل أقوى ما فيه منطقه المتوازن وقياسه فكرانيته بميزان جوهرجي، ليس بمعنى أنه لا يريد أن يأخذ موقفاً، بل بمعنى أبسط من ذلك بكثير وأعمق من ذلك بكثير: معنى عماده منطق الدفاع عن الإنسان، مهما كانت بساطته وتعقّده، في مواجهة المتاجرين بالقضايا الكبرى. الدفاع عن الإنسان على الضد من الجماعة التي لا تتوقف ولن تتوقف عن استخدام هذا الإنسان وقوداً مجانياً في صراعاتها. ولعل في إمكاننا هنا أن نحيل الى مشهدين في الفيلم يضعاننا على تجابه مع هذه الفكرة العزيزة دائماً على فؤاد زياد الدويري إلى درجة أنها شكلت العمود الفقري في فيلمين سابقين له، على الأقل، «بيروت الغربية» و «الصدمة»: المشهد الذي يعود فيه توني حنا أدراجه لتصليح سيارة خصمه إذ امتنعت عن الحركة فيما كانا خارجين من المحكمة محبطين معا يتبادلان نظرات الكراهية. واللقطات الأخيرة التي تحمل تلك النظرة العميقة في إنسانيتها التي يتبادلها الخصمان على درجة المحكمة وقد انتهت القضية إلى لا شيء. ولكن هل تراها انتهت حقاً إلى لا شيء؟
أبداً بالتأكيد، فعلى رغم من كل ما يتعرض له زياد الدويري من «إهدار دم» و «تكفير وطني» … عرف أخيراً كيف يقول كلمة حاسمة في تلك الحرب التي يعلن فيلمه بكل وضوح أنها لن تنتهي أخيراً إلا حين نجابه حقاً ما حدث فيها من دون تبرج، دون أكاذيب، دون عنتريات «وطنجية» باتت تنتمي إلى ماض سحيق آن له أن يمضي أخيراً، هو والمتعلقون به لأنه باتت تجارتهم الوحيدة ومصدر رزقهم.
الحياة