كأن الحياة في سوريا سماء وماء… كأنه لم يحصل شيء في البلاد، وما زال حاصلاً، بدليل نقاط الاشتباك المشتعلة، وبدليل وجود نصف السكان مقتلعين من أماكنهم.
فبحجة إعادة تنظيم المناطق المدينية المتهالكة أو المدمرة، والعشوائيات الملاصقة للمدن الكبرى، صدر مرسوم تشريعي في 2 نيسان/ إبريل يحمل الرقم 10 لعام 2018، ويتضمن عشرات البنود التفصيلية، ويحيل الى قوانين سابقة. وهو عرض على البرلمان الذي وافق – بالطبع – عليه.
الغاية من إتقان الجانب الإجرائي والقانوني على هذا النحو هي الايحاء بأن لا اعتباط في الأمر. ولكنها ممارسة شكلية بحتة، لأن الاعتباط يظهر جلياً في الآلية المقررة لمصادرة الأملاك: يدخل المرسوم حيز التنفيذ بعد 30 يوماً من إقراره، وهناك مهلة خمسة أيام لتقديم الأوراق الثبوتية لملكية المباني والأراضي. الاستعجال إذاً وأولاً، الذي يعرقل المهمة حتى لمن يعيش داخل البلاد وبشكل مستقر، بل وحتى لمن يملك الأوراق اللازمة. بينما لجأ الى الخارج 5 ملايين سوري، ونزح في الداخل 6 ملايين سوري. هذا قبل أن يشار الى الخوف الامني لأن “براءة” من مكتب الأمن مطلوبة كما يبدو، وحتى لو لم تكن (نقطة الغموض الأولى)، فالكثير من السوريين لا يجرأون على التقدم من دائرة حكومية (وإنْ مدنية) مخافة ان يكتشفوا أنهم مشبوهون بتهمة المعارضة – هنا تُسمى “الإرهاب” – وأن يجري بهذه المناسبة توقيفهم أو خطفهم وإخفاءهم قسرياً. وأما من هم في بلدان اللجوء – مَنْ حصل منهم على وثائق لجوء ومن لم وما زال يعيش مشرداً – فهولاء لا يمكنهم قطعاً ممارسة حقهم ذاك. والمرسوم يقول إنه يمكنهم توكيل “قريب حتى الدرجة الرابعة” بانجاز المهمة، بينما سيخشى الأقرباء على حياتهم من إعلان قرابتهم بهؤلاء! ومعلوم أنه في العام 2012 صدر مرسوم بمصادرة املاك المتهَمين بالإرهاب.. ما يختصر المهمة!
أيها السوريون انتبهوا: أملاككم في خطر!
وأما المسألة الثانية التي تشمل “الأبرياء” و”الإرهابيين” على حد سواء، فتتعلق بوجود أوراق الملكية الثبوتية أصلاً. إذ تُبيِّن دراسات عديدة، أجري بعضها من قبل مؤسسات سورية في زمن السلم بينما أخرى قامت بها هيئات دولية وجمعيات متخصصة وخصّت اللاجئين، أن 50 في المئة فحسب من الأراضي كانت ملكيتها مسجّلة في الدوائر العقارية بينما يجري تداول النصف الثاني بعقود بيع لتفادي دفع الرسوم، وهي ممارسة شائعة وتقليدية في العديد من بلدان المنطقة. وهناك أيضاً أن عدة دوائر من السجل العقاري قد دُمّرت وفُقِدت سجلاتها، بينما مستوى المكننة المركزية معدوم أصلاً فلا مجال لتعويض ما احترق أو نُهب وضاع، وأن ما نسبته 70 في المئة ممن نزحوا عن مساكنهم داخل البلاد أو خارجها فقدوا سندات ملكياتهم لو كانت أصلاً بحوزتهم، بينما هم 9 في المئة فقط ممن لجؤوا خارج البلاد لديهم وثائق ملكياتهم (بحسب الهيئة العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة)، بل كثيرون فقدوا أوراقهم الثبوتية الشخصية.
ثم وبعد ذلك، وعلى فرض الوجود في وضع نظامي تماماً، فمن ستصادَر أملاكهم لـ”الصالح العام” سينالون مكانها أسهماً في الشركة العقارية التي تشرف على العملية، أو حيزاً في ملكية شيوع، تقدر قيمته بالأسعار التي كانت قائمة قبل إصلاح المنطقة، ما يجعل الفارق بين السعرين كبير، والتعويضات شحيحة. ويخضع قرار تعيين مكان حيازة أي عقار الى “غموض بنّاء” يسمح للسلطة بمكافأة من تُحب أكثر وباقصاء من لا يعنيها الى الأطراف.
والمسألة الثالثة تتعلق بـ”سينيكية” (التعبير يُترجم الى العربية بـ”كلْبية”، ما يطرح الحاجة الى الرأفة بالكلاب!) القوانين التي صدرت خلال سنوات الحرب المدمِّرة تلك والرقم 10 هو آخرها. فيا لبشاعة أن يكون رجال السلطة والأعمال (وهم واحد عملياً) يقصفون ويقتلون وهم يفكرون ليس فحسب بالوصول الى الانتصار في معركة الحفاظ على السلطة بين أيديهم، بل وفي أرباحهم المالية المهولة الممكن تحقيقها خلال تلك الحرب، وبعدها.
ففي العام 2012، وفيما سوريا تشتعل، أقر قانون أول لتنظيم التخطيط العمراني باشراف شركة “دمشق – الشام القابضة” التي يملكها “رجل الأعمال” وابن خال الرئيس، الملياردير رامي مخلوف. وصدر قانون ثانٍ في 2015، حين كانت أجزاء كبيرة من المدن السورية قد دمرت. وهو ما يشمل دمشق نفسها إذا اعتبرنا مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جزء منها، وهو الذي يبدو أن تنظيم تسرّب “الإرهابيين” اليه قد تمّ عمداً، بغاية تدميره وإجلاء سكانه، باعتبار أن هؤلاء الفقراء لا يحق لهم السكن في مكان مهم عقارياً الى هذه الدرجة، ويمكن أن يخطط لجعله مليئاً بالقصور والفيلات والفنادق والابراج والمولات الخ… واليوم، فشركة “دمشق – الشام القابضة” المذكورة، تعلن أنها وقعت عقوداً لتأسيس 6 شركات جديدة برأسمال إجمالي مقداره 380 مليار ليرة سورية (نحو 850 مليون دولار)، ما يرجِّح أنها مكلفة بإعادة الاعمار تلك، وما سيجعل آل الحريري وشركة “سوليدير” اللبنانية التي نشأت خلال الحرب الاهلية اللبنانية للغاية نفسها، تموت حسداً وغيرة!
الاستثمارات الخارجية في سوريا “الخصبة”
ويقال إن من بين الأهداف من صدور القانون 10 إفهام الدول الغربية التي تضع شروطاً سياسية للمساهمة في إعادة الاعمار بأنه يمكن الاستغناء عنها، ولاسيما ان هذه الدول تتعامل هي الأخرى مع الدنيا بعقلية “البزنس”، والامر جليّ في صفقات بيع السلاح التي تعقدها مع أفظع الانظمة، مثلاً فيما تدين من جهة أخرى ارتكابها المجازر وتسببها بالمجاعات. كما يبدو أن القانون 10 مناسبة للامعان في عقاب المعارضين – وحتى المترددين والمتلكئين – وفي مكافأة المؤيدين. وهي أيضاً وأخيراً طريقة في تعديل التركيب الديمغرافي والطائفي لمناطق بعينها، مما يذكِّر بما جرى لمدينة حماه بعد نكبتها في 1982.
وقد قرر القانون الجديد أن يبدأ بتطبيق مخططه بشكل “تجريبي” في ثلاث نقاط من البلاد، كلها تمتلك أسماء ما زالت في الذاكرة: باب عمر قرب حمص، وشرق حلب، وحرستا في الغوطة بالقرب من دمشق.
هذا الجاري اليوم هو مصادرة وخصخصة في الوقت نفسه، وهو سيدخل الى ميزانية “الدولة” السورية مبالغ مالية فلكية. وهكذا يتحقق اصطياد عدة عصافير بحجر واحد.
تلك السلطات، في سوريا ولكن في سواها أيضا، تتسبب بنشوء العشوائيات في أوقات السلم بسبب سوء ادارتها الاقتصادية والانتاجية، واختياراتها لأولويات لا علاقة لها بمصلحة الناس ولا بتطور البلاد وازدهارها، بل بأرباح القائمين عليها. ثم تعود في زمن الحروب والصراعات الى تدمير أماكن سكن الفقراء أو ما يحلو في أعينها، لتحقق أرباحاً جديدة. يا للكلبية!
نهلة الشهال
هذا المقال منقول، ونشر لأول مرة في جريد السفير العربي