تحولات “السوق الدينية” في مصر
يتلاقى صعود الصوفية الجديدة مع رغبة إقليمية ودولية لمحاصرة تيارات الإسلام السياسي، ووقف صعودها ونفوذها في العالم العربي.
بقلم: خليل العناني
على مدار العقود الأربعة الماضية، شهدت مصر عدة موجات من التدين المؤّطر والمنظّم. بدأت الأولى أواخر السبعينيات، واستمرت طوال عقد الثمانينيات، مع ظهور ما كان يسمّى وقتها تيار الصحوة الإسلامية الذي ظهر على خلفية الثورة الإيرانية عام 1979.
وقد كانت الصحوة مدعومة، آنذاك، بنوعٍ من الرضى والرعاية الرسمية لبعض الأنظمة العربية، من أجل مواجهة النفوذ الإيراني في المحيط السنّي، وكذلك لمحاصرة الخطر الشيوعي الذي كان يرعاه الاتحاد السوفييتي.
فنشطت الحركات الإسلامية ذات التوجه الإخواني والسلفي في أكثر من بلد عربي، وسمّيت الثمانينيات عقد الصحوة الإسلامية.
في أوائل التسعينيات، جاءت الموجة الثانية من التدّين، مع ظهور تيار الدعاة الجدد الذين بدأوا ترويج نمط جديد من التدّين، غير محمّل بعبء الإيديولوجيا، وغير مؤطر تنظيمياً، ومتخفّف من الطرق التقليدية في نشر الدعوة.
وكان أبرز نجوم هذا التيار الدكتور عمر عبد الكافي، وظهور الشاب، آنذاك، عمرو خالد، الذي تحوّل إلى ظاهرة لافتةٍ في مجال الدعوة، وحاز شعبية كبيرة في السوق الدينية، خصوصا في أوساط الشباب.
في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، انطلقت الموجة الثالثة من التدّين، وهذه المرة بنكهة سلفية أصولية، وهي الموجة التي دعمتها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلدان العربية، من أجل مواجهة المد الإخواني واحتوائه، وهو المد الذي نجح في تحقيق اختراقات سياسية مهمة في أكثر من بلد عربي، من خلال نافذتي الانتخابات والعمل الأهلي.
وقد انتشرت التيارات والرموز السلفية في الفضاء العام، وبدأت تهيمن على السوق الدينية، خصوصا في مجالي الإعلام والأزياء الدينية.
وكان ظهور القنوات التلفزيونية الدينية بمثابة نقلة نوعية في الحضور السلفي في الفضاء العام. وبات رموز التيار السلفي وشيوخه نجوماً في الإعلام والفضائيات، وتمتع كثيرون منهم بالدعمين، المالي والمعنوي، من سلفيات الخليج.
في حين جاءت الموجة الرابعة بعد “الربيع العربي”، على خلفية صعود الأحزاب والتيارات الإسلامية إلى قمة السلطة، فبدأت مراكز القوى القديمة ورعاة الثورة المضادة إقليمياً في تحضير نمط جديد من التدّين، يعتمد على الصوفية والتصوّف.
فقد شهدت مصر، في السنوات القليلة الماضية، تحولاً ملحوظاً في سوقها الدينية باتجاه الصوفية والتصوف. وثمة في خلفية هذا الصعود الصوفي عدة عوامل، أهمها حالة العداء بين النظام الحالي والحركات والأحزاب الإسلامية، خصوصا جماعة الإخوان المسلمين التي تكافح حالياً من أجل البقاء.
وفي ظل انكشاف التيارات والجماعات السلفية بعد تواطئها السياسي ضد “الإخوان”. وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، تم تفريغ الساحة، بشكل كامل تقريباً، للطرق والجماعات الصوفية، كي تنتشر ويظهر أتباعها على السطح من دون منافسة.
كما يبدو الطلب على الصوفية والتصوّف الآن مدفوعاً برعاية النظام شيوخها ورموزها، وتقريبهم منه، عبر إفراد مساحات لهم في الإعلامين، الرسمي وغير الرسمي، والثناء عليهم وعلى حركاتهم، وتسهيل أنشطتهم المختلفة. وهناك حديث عن اتباع عدد من كبار المسؤولين الصوفية، ما يعطيها نفوذاً وتأثيرا يفوق ما دونها من الاتجاهات الدينية.
وإذا كانت الصوفية في مصر موجودة ومنتشرة منذ قرون، إلا أن ظهورها على السطح بعد ثورة يناير 2011، وتحديداً بعد انقلاب “3 يوليو” في 2013، يبدو لافتاً للنظر.
وإذا كانت القاعدة الاجتماعية الأساسية للصوفية في الماضي تتمركز بالأساس في الطبقتين، الدنيا والوسطى، فقد بدأت تتغلغل الآن في الطبقتين، العليا والوسطى العليا. وثمّة إقبال من شباب هاتين الطبقتين على الالتحاق بالطرق والتيارات الصوفية.
أما الأكثر بروزاً فهو الحرية التي يتمتع بها المتصوفة الجدد في إظهار طقوسهم الصوفية، على عكس ما كان عليه الأمر سابقاً.
فثمّة مساجد كاملة تحولت باتجاه الصوفية، وهناك الآن دروسٌ دينيةٌ يلقيها بعض مشايخ الصوفية في المساجد على الملأ، بعد أن كانت تقتصر طقوسهم على تجمعاتٍ في منازل المريدين، أو في بيت شيخ الطريقة.
في حين يتباهى بعض أتباع الصوفية بتصوير طقوسهم ونشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، بما تحمله من خرافات وهرطقات، كالرقص والغناء في المساجد.
يتلاقى صعود الصوفية الجديدة مع رغبة إقليمية ودولية لمحاصرة تيارات الإسلام السياسي، ووقف صعودها ونفوذها في العالم العربي.
وليس غريباً أن تكون الدول الراعية للثورة المضادة هي نفسها التي تتبنى نشر الاتجاهات الصوفية في العالم العربي، من أقصاه إلى أدناه، وتُغدق عليها الأموال والدعم السياسي والمؤسسي بشكل غير مسبوق.
وهي في ذلك تستغل جرائم الجماعات الجهادية وبشاعاتها، برعاية نمط تديني صوفي، باعتباره يمثل “الإسلام الحقيقي” الذي على العرب والمسلمين اتباعه.
في حين تقدّم نفسها للعالم راعية “الإسلام المعتدل” الذي يعني، بالنسبة لها، إسلاما مستكينا وخانعا يقبل بكل ما يُفرض عليه، من أجل الاندماج في المنظومة الكونية.
وكما دعت واستغلت تيارات دينية أخرى في الماضي، من أجل دعم وجودها وشرعيتها، فإن هذه البلدان تستغل التيار الصوفي الآن، لتحقيق أجندة سياسية مغايرة، وسوف تنقلب عليه، مثلما فعلت من قبل مع تيارات ورموز دينية أخرى.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية الزائر بجامعة جونزهوبكنز الأميركية.
المصدر: العربي الجديد
مفاتيح: مصر، “السوق الدينية”، الصحوة الدينية، الاتجاهات الصوفية، الإخوان المسلمون، عمر عبد الكافي، رعاة الثورة المضادة، انقلاب 3 يوليو،