رؤية مختلفة للأحداث !

الرواية الخالدة الساعة الخامسة والعشرون

0

الساعة الخامسة والعشرون هي اللحظة عديمة الجدوى

تتأسس رواية “الساعة الخامسة والعشرون” للكاتب الرّوماني قسطنطين جيورجيو، ترجمة فائز كم نقش والصادرة حديثا عن دار نشر مسكيلياني على فكرة مركزية تشكل محور الرواية يتولى عنوان الرواية الرئيس اختزالها في بنيته الدلالية.

تظهر وظيفة العنوان الرئيس الشعرية من خلال علاقة الترابط القائمة بينه وبين المتن السردي، نظرا لما ينطوي عليه من قيمة دلالية نابعة من رؤية الكاتب إلى ما كان يحدث في أوروبا الغربية من حرب طاحنة في النصف الأول من أربعينات القرن الماضي ونتائجها الكارثية على الإنسان، بوصفها نتيجة حتمية للتحولات التي شهدها المجتمع الآلي الغربي، حيث تم تغييب شخصية الفرد الإنسان وتحويله إلى ضحية.

هذه النتيجة تجسدها مصائر شخصيات الرواية المرعبة في متاهاتها المأساوية التي كانت تضيع فيها خلال سنوات الحرب المجنونة، سواء على جبهة ألمانيا النازية أو جبهة الحلفاء بعد انتصارهم.

في دلالة العنوان

إن الرواية بقدر ما تحاول الكشف عن فظائع هذه الحرب الكونية الرهيبة فإنها تحاول أن تكشف عن خلفياتها وأسبابها الموضوعية التي قادت هذه المجتمعات إلى هذه النتائج الكارثية، بعد أن فقد الإنسان في المجتمع الآلي قيمته الفردية والإنسانية.

في هذه الدلالة الزمانية ينكشف المصير المأساوي للإنسان بعد أن دخل في متاهة وجوده التي يصعب عليه الخلاص منها، إنها متاهة المجتمع التقني، كما تصرح بذلك شخصية الروائي والشاعر تريان ابن قسيس البلدة الرومانية بعد أن فرّ مع زوجته قبل وصول القوات السوفييتية، ليقعا بين أيدي القوات الأميركية التي أودعتهم معتقلاتها لأنهما ينتميان إلى بلد ما زال يعد معاديا لهذه القوات.

يكثف تريان الصورة المأساوية للإنسان الغربي بعد أن تحول إلى عبد للآلة، كما يتجلى ذلك في حواره مع وكيل النيابة بحضور والده القس “في رأيي سنموت في أغلال العبيد التقنيين روايتي كتاب هذه الخاتمة.

– وما هو عنوانها؟ فقال: الساعة الخامسة والعشرون. اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى. بل إن قيام المسيح نفسه لن يجدي. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي ما بعد الساعة الأخيرة. ساعة المجتمع الغربي. إنها الساعة الراهنة، الساعة الثابتة المضبوطة”.

لكن هذه الرؤية المأساوية الحزينة لمآلات المجتمع الغربي الذي سيطرت عليه العلاقات المادية بعد الثورة الصناعية، تجد أن خلاص هذا المجتمع يكمن في روحانيات الشرق التي ستغير وظيفة هذه التقنية من خلال استخدامها لصالح الإنسان “سيشرق هذا النور العظيم من الشرق، ولا شك ليس من روسيا فقد أصبح الرّوس بدورهم خاضعين أمام نور الكهرباء، لذلك لن يعيشوا ليروا الإشراق. سيكتسح الإنسان الشرقي المجتمع التقني وسيستعمل النور الكهربائي لإنارة الشوارع والبيوت”.

في بنية الرواية

تتسم بنية الرواية بطابعها التقليدي سواء من خلال استخدام السرد الخطي التعاقبي والمتصاعد، أو استخدام الراوي العليم الحاضر في كل مكان، والعارف بكل ما تفكر أو تهجس به شخصيات الرواية أو تريد أن تفعله، أو عبر استخدام التحفيز الواقعي الخارجي الذي تطابق فيه أحداث الرواية القيم الواقعية من أمكنة وأحداث، أو تقسيم الرواية إلى فصول وأقسام.

يقتحم السرد أحداث الرواية دون الاهتمام بتقديم المكان أو الزمان مستخدما صيغة الحوار الذي يتم بين شخصية بطل الرواية إيوهان موريتز الذي يستعد للهجرة إلى أميركا صحبة محبوبته سوزانا. التحول المفاجئ الذي يطرأ على حياة إيوهان ويقلبها رأسا على عقب هو اكتشاف والد سوزانا العنيف لخروجها من البيت ليلا لملاقاة إيوهان ما يدفع الأخير للهرب معها حماية لها من المصير المأساوي الذي ينتظرها على يد أبيها المرعب. ويأتي الحدث الثاني المتمثل بسلوك رئيس مخفر الدرك الدنجوان وزير النساء عندما يضع اسم إيوهان في قائمة اليهود المطلوبين للأعمال الشاقة في معسكرات الاعتقال في رومانيا، لكي تتاح له فرصة الاختلاء بزوجته الجميلة.

الإنسان في المجتمع الآلي فقد قيمته الفردية والإنسانية

تتقاطع مصائر شخصيتي الرواية الرئيسيتين إيوهان والكاتب الروائي تريان ابن قسيس بلدته، في نقطة من نقاط المتاهة التي يضيعان فيها متنقلين بين عشرات المعتقلات.

تتسم الشخصيتان بسمات الثبات ما يجعل سلوكهما يعكس واقع هاتين الشخصيتين. تريان يرثي مصير الفرد في المجتمع الآلي الذي يقع ضحيته عندما يتم اعتقاله من قبل الأميركيين عندما هرب مع زوجته باتجاههم هربا من القوات الروسية، لكنه يجد نفسه بلا أمل في مجتمع حوّل الناس إلى عبيد فيختار مصيره بنفسه بتعريضها للقتل من قبل حراس المعتقل الذي ضاق بالحياة المرعبة فيه بين عشرات الآلاف من المعتقلين.

فضائح الحرب المرعبة

في الوقت الذي تقدم فيه الرواية سيرة حياة شخصيات عانت من ويلات الحرب العالمية الثانية الرهيبة كما كانت تتجلّى في معسكرات اعتقال اليهود أوّلا، ومن ثم في معسكرات الحلفاء، فإن الرواية تحاول أن تقدم نوعا من العلاقة الاستعارية بين ما كانت تعيشه شخصيات الرواية من ويلات في معسكرات الاعتقال الرهيبة، وبين المجتمع الغربي الذي تحوّل إلى ضحية لتسيّد المجتمع الآلي عليه.

تبدأ متاهة بطل الرواية إيوهان ورحلته المرعبة بين عشرات المعتقلات عندما لجأ رئيس مخفر بلدته إلى تسجيله في قائمة السكان يهوديي الأصل، لكنه عندما يهرب مع مجموعة من اليهود يتم اعتقاله مجددا باعتباره رومانيا، أما في ألمانيا فيعتقل بعد هروبه الثاني لكونه هنغاريا. التحوّل الغريب في ظروفه يحدث عندما يقابله عالم الشخصية النازي المعروف ويكتشف أنه نموذج للشخصية الألمانية الأصيلة. فجأة يتحوّل من معتقل إلى جندي حراسة في المعتقل نفسه، لكنه يفر مجددا مع مجموعة معتقلين فرنسيين، إلا أنهم يتخلون عنه فيعتقل من قبل القوات الأميركية لأنه روماني.

بالمقابل هناك شخصية الروائي المشهور تريان التي تهجس بفكرة الساعة الخامسة والعشرين باعتبارها تمثل مرحلة ما بعد هزيمة المجتمع الغربي وعبودية الآلة للإنسان. هو الآخر ينتقل من المجد والشهرة التي حققتها له أعماله إلى الإهمال والتنكر له بسبب زواجه من الثرية اليهودية صاحبة أهم دار نشر. تركّز الرواية على تصوير مشاهد الاغتصاب التي قام بها الجنود السوفييت للنساء الألمانيات، إلى جانب المعاناة الرهيبة لعشرات الآلاف من المعتقلين في عشرات السجون الأميركية بعد هزيمة ألمانيا النازية في الحرب.

تتقاطع مصائر الشخصيتين في إحدى المعتقلات الأميركية. تريان يقرر إنهاء حياته عندما يعبر خط النهاية نحو أسلاك أسوار المعتقل فيطلق الحراس عليه النار، بينما إيوهان الشاهد على هذه النهاية المأساوية والذي عجز عن إقناع تريان بالعدول عنها يواصل معاناته القاسية في المعسكرات الكثيرة التي يتنقل بينها، حتى يتم الإفراج عنه وعودته إلى أسرته.

تبرز الرواية في جزئها الأخير شخصية أليونورا وست مترجمة معسكر الاعتقال، باعتبارها الكاتبة الثانية للرواية، بعد أن أحضرت من المعتقل الأجزاء الأربعة الأولى التي كتبها تريان قبل موته، لكي تستكمل كتابة جزئها الأخير. في هذا الجزء الذي تظهر فيه محاولات الحلفاء تزييف صورة المجتمع الغربي الذي سحقته ويلات هذه الحرب، يظل إيوهان الرافض للابتسام لكاميرا الصحافي الأميركي مستحضرا العمق المأساوي لهذه الحرب الفظيعة التي عاش 13 سنة يتنقل بين معسكرات الاعتقال الرهيبة فيها “الآن وهم يأمرونه بالابتسام شعر أنه لا يستطيع الابتسام.

كان يشعر في تلك اللحظة بأنه سينفجر باكيا منتحبا كالمرأة الثكلى بكل ما أوتي من يأس. لقد كانت النهاية. ولم يكن يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى. غير أن الضابط لبث يأمر إيوهان موريتز وهو يحدق في وجهه: ابتسم ابتسم ابتسم..”.

 

الساعة 25

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق