الأسد باق في السلطة نظامه حتى إشعار آخر! ولا تلازم بعد اليوم بين مساري السلام ولا بين مساري المقاومة. والأسوأ ما زال بانتظار إيران.
ثمة علاقة عكسية بين الاهتمامات التنموية والخدمية لحاضنته الشعبية وبين «المشروع المقاوم» لـ«حزب الله» ومقتضياته.
فريق «المقاومة والممانعة» المنتشي عسكريا في سوريا عليه أن يقلق لضعف قدرته على «تحويل» الانتصارات الميدانية إلى مكاسب سياسية.
بقلم: عريب الرنتاوي
الأصل في تسمية «محور المقاومة والممانعة» بهذا الاسم، هو مقاومة إسرائيل، والامتناع (أو التمنع) عن التساوق مع الحلول «الاستسلامية» الرامية لتصفية القضية الفلسطينية وتأبيد وجود «الكيان».
أما «الطارئ والفرعي، فهو الحرب على «الإرهاب»، التي فهمنا أنها «فاصل إعلاني قصير» تعود بعده أطراف «المحور» المذكور، لاستئناف «مقاومتها» للاحتلال و«ممانعتها» لمشاريعه التصفوية.
بهذا المعنى، قيل لنا أن الإرهاب بجناحيه الرئيسين: داعش والنصرة، هو الوجه الآخر للعملة الصهيونية الاستعمارية… ولطالما جرى استخدام تعابير من نوع «مُشغليهم» في إشارة لتل أبيب وعواصم عربية وغربية، بوصفها راعية الإرهاب ومُنشأته. ولقد تواطأ البعض منّا مع هذا المفهوم، أو أغمض الطرف عنه، رغم ما يستبطنه من تناقضات بنيوية ومعرفية وسياقية.
ولطالما جرى الحديث عن المعركة على الإرهاب، بوصفها توطئة للحرب مع إسرائيل، وفي هذا السياق على وجه التحديد، أكثر «القوم» من الحديث عن «تغيير المعادلات» وانقلاب «قواعد الاشتباك»، فضلاً عن نظرية «تلازم الجبهتين» السورية واللبنانية في الحرب على إسرائيل.
بل واعتبارهما جبهة واحدة، ونظرية «إن أي اعتداء على أحد أضلاع هذه المحور، هو اعتداء على المحور بأسره»، إلى غير ما هنالك من «تنظيرات» رافقت التقدم المتسارع الذي سجله الجيش السوري وحلفائه ميدانياً على الأرض السورية، والصعود غير المسبوق للنفوذ الإيراني في المنطقة.
وهو صعود صاحبه توسع في تعريف «محور المقاومة» ليشتمل على نوري المالكي والحشد الشعبي في العراق، فضلاً عن الحوثي وانصار الله في اليمن، إلى جانب حماس والجهاد في فلسطين، وعطفاً على أحزاب وشخصيات وتنظيمات متفرقة هنا وهناك.
التقدم، بل الاختراق الميداني الاستراتيجي في سوريا، واقعة لا ينكرها إلا غافل أو أعمى. فالجيش السوري يبسط سيطرته على نحو ثلاثة أرباع الأرض السورية، بعضها استعاده بالتسويات والصفقات، وأغلبه استعيد بقوة الحديد والنار والمعارك الضارية.
لكن التحدي الذي يواجه المنتصرين من أطراف هذا «المحور»، إنما يتجلى في قدرته على ترجمة انتصاراته العسكرية والميدانية إلى مكاسب سياسية، سيما وأن لهذا المحور، راعٍ واحد، يتكرس دوره القيادي كـ«مايسترو» في الأزمة السورية، إنه روسيا، «الكرملين» و«القيصر» على وجه التحديد.
في السياق العام، يبدو أن «المحور» يعاني من اهتزاز في مكانة أحد أهم أضلاعه الإقليمية: إيران، التي بلغ نفوذها الإقليمي شأواً عظيماً في السنوات 2005–2011، قبل أن يندلع الحريق في العباءة السورية، وتلتهم النار «واسطة عقد» الممانعة والمقاومة لسنوات ثمانٍ عجاف..
مكانة إيران الإقليمية في تآكل، والحقبة الإيرانية، تشهد انكماشاً متسارعاً، وربما بأسرع مما تشهده الحقبة الخليجية، المتراجعة أصلاً، من تآكل في الهيمنة والدور والنفوذ.
إيران تنكفئ إقليمياً، وضعها في العراق لا تحسد عليه، بعد أن نبتت في البيئة الشيعية الحاضنة لنفوذها ودورها الإقليمية، قوى مناهضة لها، وتواقة للخلاص من هيمنتها.
بل وتقدم نفسها بوصفها «رافعة للواء» الوطنية العراقية، والقومية العربية والانفتاح على المجتمع المدني والشيوعيين، وصاحبة مشروع استقلالي عن طهران، ناهيك عن الفجوة غير القابلة للردم على ما يبدو مع المكون السنيّ وأطراف من المكون الكردي.
وإيران تنكفئ إلى الداخل، بعد أن تفاقم أزماتها المالية والاقتصادية، وانهيار عملتها الوطنية، قبل «الموجة الجديدة من العقوبات» وبالأخص بعدها، فيما صراع الأجنحة في داخلها إلى مزيد من التأزم، ويتخذ من «مجلس الشورى» وشوارع المدن وميادينها، ساحات له.
الأسوأ ما زال بانتظار إيران.
وفي الحلقة السورية، تعود جبهة الجولان، ثاني الجبهتين الشماليتين، إلى عهدها السابق، المتميز بالهدوء التام والصمت المطبق للمدافع، بترتيب روسي وتوافقات دولية وإشراف أممي.
إسرائيل ترحب بعودة الهدوء إلى حدودها مع سوريا، وتفاهماتها السرية– شبه المعلنة– مع موسكو كانت في أصل هذا الهدوء، وجوهر التفاهمات الأميركية الروسية، والسر وراء الانهيار المتسارع للجبهات وخطوط القتال وخنادق المسلحين واستحكاماتهم.
الأسد باق في السلطة، وكذا نظامه، وحتى إشعار آخر!
لكن ذلك، لا يعني تلقائياً، أن هذا انتصار لـ«مشروع المقاومة»، إذ سيحرص الراعي الروسي، الباقي في سوريا لـ49 عاماً، والتواق لتفاهمات مع واشنطن، وعلاقات عمل مع البيت الأبيض، على نزع صفة «المقاوم» وربما «الممانع» عن النظام…
نظرية «تلازم الجبهتين» التي حلت محل نظرية اشتهرت في تسعينات القرن الفائت، زمن مدريد ومفاوضات السلام عن «تلازم المسارين» السوري واللبناني، سقطت سقوطاً مدوياً مع أول دورية سيّرتها قوات «الاتدوف» برعاية الشرطة العسكرية الروسية..
لا تلازم بعد اليوم بين مساري السلام ولا بين مساري المقاومة.
معنى ذلك، أن انسحاب إيران من سوريا، لن يقف عند حدود الـ«83» كم شمال خط الحدود مع الأردن و«الكيان»، بل قد تتلوه انسحابات أكبر وأوسع، ألمح إليها غير مسؤول إيراني على أية حال، وإن كانوا وضعوها في سياق التفاهم الثنائي بين دمشق وطهران، وانتفاء مبررات الوجود بعد أن تلاشى خطر الإرهاب وتهديده!
وليس في سياق الخضوع للإملاءات الأمريكية أو الطلبات الروسية العلنية لطهران وحزب الله، بمغادرة سوريا ما أن تضع الحرب على الإرهاب أوزارها، وهي وضعتها على أية حال، أو هي في طريقها إلى ذلك.
ومعنى ذلك، أن لا مكان لحزب الله في لبنان، وأن عودته للبنان باتت وشيكة وحتمية… لبنان هذا، يسوده هدوء مستدام في جبهة الجنوب، منذ عقد ونيف، وحزب الله ينخرط أكثر في دهاليز السياسة المحلية، والشأن الحكومي والبرلماني.
واهتماماته التنموية والخدمية لبيئته الحاضنة، ستملي عليه مزيداً من هذا الانخراط، حتى لا يقامر بفقدانها وخسارتها. وثمة علاقة عكسية بين هذه العملية وديناميتاها من جهة، و«المشروع المقاوم» للحزب ومقتضياته من جهة ثانية.
وهيهات أن ينجح الحزب، في توظيف «فائض» قوته واقتداره العسكريين، لإحداث الانقلاب في المشهد اللبناني.. فإن كان ثمة من درس مستخلص من تجارب لبنان المديدة والمريرة، فهي أن هذا البلد المتعدد والمتنوع، لا يحكم بفريق واحد، مهما توفر على عناصر القوة والاقتدار!
وأن الاستقواء بالخارج يمكن أن يوفر بعض المزايا لهذا الفريق لبعض الوقت، بيد أنه غير قادر على تمكينه من حكم البلاد واسترقاق العباد. لبنان يُحكم التوافق و«الميثاقية»، وهذه قواعد مقيّدة ومكبلة لفائض القوة الذي يمكن أن يستشعره هذا الفريق أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك.
أما في غزة، حيث تتموضع حلقة أخرى من حلقات «المقاومة والممانعة»، فإن مخاوف جمّة تسود أوساط الفلسطينيين من مغبة أن تأتي حماس «شيئاً فرياً»، فهي تستعد لهدنة السنوات العشر المقبلة.
وترقص على حافة «صفقة القرن»، وتتحدث عن «الإنساني» في ملف غزة، الذي تفوح منه رائحة «أوسلو 2»، وبالضد من إجماع الفلسطينيين بفصائلهم المختلفة، بما فيها القريبة والحليفة لحماس..
غزة في «عُرف» هذا المحور، كانت تسمى «الجبهة الجنوبية»، ومنها اشتقت «نظرية الإطباق»، إطباق الجبهتين الشماليتين «المتلازمتين» مع الجبهة الجنوبية حول «الكيان»، عند أول اعتداء على أطراف «المحور».
غزة تتحضر بقيادة حماس لهدنة مستدامة، وقوات الاندوف حلت محل «جبهة المقاومة الوطنية السورية» التي قيل أن العمل على تجهزيها وتحضيرها للمنازلة الكبرى، جارٍ على قدم وساق.
خلاصة القول، أن فريق «المقاومة والممانعة» المنتشي عسكريا في سوريا، له الحق في أن يفعل ذلك، ولكن عليه أن يقلق لضعف قدرته على «تقريش» هذه الانتصارات الميدانية إلى مكاسب سياسية.
بل ويمكن القول، أن المعركة الحقيقة لهذا المحور، قد بدأت الآن، وستتكثف بعد أن تصمت المدافع نهائياً في سوريا..
أما النظريات وركام التنظير الذي أريق في سياق حرب السنوات الثماني في سوريا، فهي بحاجة لإعادة نظر وتمحيص من جديد، في ظل التبدل والتغير المتوقع في المواقف والمواقف، وفي أوزان وأحجام اللاعبين.
لكن ما يهمنا هنا أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، ولكن دائماً على شكل مأساة ومهزلة معاً: ففلسطين التي كانت غداً بعد الكويت وشط العرب، ستظل غداً بعد درعا والقنيطرة وإدلب!
وهذا «الغد» قد لا يأتي أبداً، فهناك أولويات أخرى، تنشغل بها المحاور العربية والإقليمية المتصارعة، بما فيها «محور المقاومة والممانعة» ستُبقي فلسطين غداً، ودائماً غداً.
* عريب الرنتاوي كاتب صحفي أردني