بقلم: أكرم البني
هو سؤال يثار باستغراب بعد عامين من الثورة، عن سر استمرار السوريين في ثورتهم أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين يستمدون قوتهم وعزيمتهم في ظل ما يكابدونه وهذا العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد يبدون فيه كأنهم يواجهون مصيرهم منفردين، ربطا بضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لم يرق إلى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق بناء دور أممي يساهم في المعالجة والحل!
بعد معاناة لم يعرف شعب ثائر لها مثيلا، يفاجئك إصرار غير مسبوق عند الناس على الاستمرار والتغيير، نابع ربما ليس من عمق الرد على اضطهاد وإذلال مديدين وقهر شديد من التمييز والتهميش، أو من رفض عميق لهذه الاستباحة غير المسبوقة من قبل أهل الحكم لحقوقهم وحيواتهم واستخدام كل أصناف الفتك والتنكيل للحفاظ على مواقعهم وامتيازاتهم، بقدر ما هو إصرار الناس على رفض واقع وصل إلى حدود غير مقبولة، تتجاوز كل طاقة على الاحتمال، وصار فيه العيش محالا ورجحت كفة تفضيل الموت على الخضوع!
وما يزيد من دينامية السوريين ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى غالبيتهم بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها، ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي توقف أو عودة إلى الوراء هو الطامة الكبرى وسوف يمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن، وهنا لعب العجز المزمن لأشد أدوات الفتك والتدمير في قمع الثورة أو محاصرتها دورا إضافيا في منح السوريين كثيرا من الأمل والثقة بقدرتهم على الاستمرار وتحقيق أهدافهم.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس أو تكسر إرادتها، ولم تنفع مناورات النظام السياسية ودعواته للحوار، أو محاولات استمالة بعض القطاعات الاجتماعية بتوفير حاجاتها المعيشية على حساب حرمان قطاعات أخرى، أو تخويفهم بالفوضى وغياب الأمن وباحتمال استيلاء تنظيمات إسلامية متطرفة على السلطة وفرض ثقافتها وأجندتها على الدولة والمجتمع. والقصد أن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور وفشله في إطفاء جذوة الحراك الشعبي على الرغم من حجم الدمار والخراب والضحايا، عزز ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وبأن قضيتهم أصبحت عصية على القمع.
وما زاد الثقة والإصرار وعزيمة الاستمرار، نجاح الثورة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقيا والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، مما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها أي فاعلية وجدوى، بل صارت تحفز همم الناس أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الفعل السلبية ولتأثيرات بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسك صفوفهم، بدليل تواتر الانشقاقات وظواهر التهرب من المسؤولية التي باتت تسم سلوك الكثير من العاملين في مرافق الدولة ومؤسساتها.
ثمة حافز آخر مكن السوريين وشد من أزرهم، هو طابع ثورتهم التي بدأت ولا تزال في وجهها الرئيسي عفوية، واستمرت رغم شدة الفتك والتنكيل، من دون قوى سياسية عريقة تقودها أو شخصيات تاريخية تتصدر صفوفها، وأنها أينعت بفعل الانتشار الواسع لقيادات ميدانية مختلفة المنابت والرؤى لا تخضع لمرجعية واحدة ويجمعها هدف مشترك هو توظيف الاحتقانات والرفض الشعبي لتعزيز خيار التمرد والاستمرار في الثورة.
صحيح أن المعارضة السياسية على اختلاف أطيافها وضعت نفسها في خدمة الثورة، وصحيح أن ثمة مبادرات لتنظيم صفوفها وتوحيد المواقف تتوالد ولا بد أن يكتب لها النجاح تحت ضغط الحاجة وحجم التضحيات، لكن ربما صحيح أيضا تندر البعض بأنه من حسن حظ الثورة السورية أنها نشأت عفوية واستمرت من دون رأس واضح يديرها أو مخطط يحكمها، وإلا لكانت آلة التدمير الهائلة قد قطعت رأسها ودمرت مخططاتها منذ زمن بعيد.
الرفض العميق للاستبداد وما خلفه من قهر وفساد، ووضوح مطالب الحرية والكرامة واتساع المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، على الرغم من الملاحظات السلبية حول إدارة شؤونها وحول تمثل أهداف الثورة في الحرية واحترام التنوع والتعددية، ثم ديمومة الاحتضان الشعبي وتنوع قياداتها الميدانية، هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للسوريين في ثورتهم.
وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضا روح الوفاء للدماء الزكية التي أريقت ولمعاناة الألوف من الجرحى والمعتقلين والمشردين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع أو إبداء الضعف ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الاستبسال من أجل استمرار الثورة وحمايتها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت عندهم سهلا دونها، يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم أكثرية السوريين للتغيير وتساعد أيضا على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة إلى الصفوف.
ليس الغرض من عرض حوافز استمرار السوريين في ثورتهم تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل للتأكيد على أن هذا الشعب المنكوب قد تجاوز مرحلة الانتكاس ووصل لنقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاض ثورته أو كسر شوكتها صار وراءه، وللتذكير أيضا بأن هذا الشعب الذي طالما صنف في خانة الاستثناء عند الحديث عن الانتفاض والثورة، يثبت للعالم أجمع اليوم أنه شعب حر، وأنه مثلما كابد وواجه طيلة عقود ظلما وشروطا لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، حتى تحقيق حلمه في مجتمع الحرية والكرامة.