بقلم: عبدالستار قاسم
من الصعب القول الآن إن الحرب الباردة بين روسيا والدول الغربية مشتعلة، لكننا نلمس المقدمات التي من المحتمل أن تغرق العالم بتوترات حرب باردة جديدة تؤدي إلى حروب إقليمية وبينية
متلاحقة ومدمرة.
التوتر بين روسيا ودول حلف الناتو يتصاعد، ونقاط الخلاف التي تسبب هذا التوتر متعددة وشائكة وليس من السهل التوصل إلى حلول سريعة لها. لقد سبق للعالم أن عانى كثيرا من الحرب الباردة لأنها كانت تشعل حروبا إقليمية ساخنة تدفع ثمنها الدول الفقيرة والفقراء والمساكين، وكانت الدول الكبرى تصب الزيت على النار وتبقى وأبناؤها يتفرجون من بعيد على دماء دول العالم الثالث تنهمر بلا طائل.
والأمر لن يختلف الآن إذا تصاعد التوتر بين المتنافسين، وستغرق دول عديدة في حروب بالوكالة تأكل الأخضر واليابس. وإذا كان الفقرمنتشرا الآن في دول أفريقية وآسيوية كثيرة، فإن تزايده سيترافق مع تصاعد الإنفاق العسكري وتوظيف المقدرات لتحقيق انتصارات عسكرية على من سيوصفون بالأعداء.
أيديولوجيتا الثورة والهيمنة
تكفل الاتحاد السوفياتي بحمل لواء الاشتراكية والشيوعية ونشر الأيديولوجيا عالميا، وحمل على الرأسمالية الغربية بشدة وحرض ضدها على اعتبار أنها استغلالية لا تحترم الإنسان وتدفعه دائما نحو التهميش والاغتراب. وهبت الدول الغربية الرأسمالية تدافع عن نفسها وضربت الستار الحديدي حول الاتحاد السوفياتي، وعملت على حصاره أيديولوجيا ووظفت الكثير من الطاقات في دول العالم الثالث من أجل مكافحة المد الشيوعي. وشغل المعسكران المتخاصمان العالم على مدى عشرات السنوات، واستنزفا الكثير من الأموال والجهود، وأزهقا مئات آلاف وربما ملايين النفوس في حروب عبثية لا ناقة للقتلى فيها ولا جمل.
“التوتر بين روسيا ودول حلف الناتو يتصاعد، ونقاط الخلاف التي تسبب هذا التوتر متعددة وشائكة وليس من السهل التوصل إلى حلول سريعة لها. لقد سبق للعالم أن عانى كثيرا من الحرب الباردة لأنها كانت تشعل حروبا إقليمية ساخنة تدفع ثمنها الدول الفقيرة والفقراء والمساكين”
لكن التطورات التي بدت أمام الناظرين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تشير إلى أنه لم يكن الاتحاد السوفياتي وحده الأيديولوجي، بل إن الدول الغربية نفسها أيديولوجية، وهي تتبنى نظرية الهيمنة لكن دون نشرها لتصبح عقيدة الآخرين. الاتحاد السوفياتي كان معنيا بنشر الفكرة الشيوعية لكي يتبناها الآخرون، لكن الدول الغربية ترى نظرية الهيمنة مجسدة بها، وعلى الآخرين التسليم بها. وكان هذا البعد الأيديولوجي واضحا في تصرفات الدول الغربية تجاه روسيا مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
تصرفت الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة على أنها وصية على روسيا وأخذت تتدخل في الشؤون الداخلية الروسية مستغلة حالة الضعف والفوضى التي أقامها الرئيس الروسي الأسبق يلتسين.
كانت روسيا في حالة فوضى سياسية، ولم تكن قد بلورت رؤية سياسية بعد أو حققت استقرارا، وعانت أيضا من انهيار اقتصادي وضعها تحت رحمة المعونات والقروض الغربية، وغزت أسواقها وتجارتها عصابات المافيا الروسية وغير الروسية. حتى أن قدراتها العسكرية اهتزت، وأصاب الجيش الروسي نوع من التيه والضياع وفقدان التركيز على أولويات الأمن الروسي.
وجدت أميركا نفسها سيدة الميدان بدون منافس، فأخذت تتغطرس بالمزيد على مختلف الدول، ووصل بها الحد للتصريح بنواياها وخططها حول عولمة العالم، ونشر الثقافة والفكر الأميركيين عالميا لتحول الناس عن ثقافاتهم الأصلية إلى ثقافة جديدة يصبحون معها أميركيين بالتربية وليس بالمولد. وعملت كذلك على جعل قوانينها عالمية، وحاولت فرضها على الدول بما فيها روسيا. أخذ القضاء الأميركي يتدخل في شؤون الدول، وتمادى الكونغرس الأميركي بسن قوانين تخول أميركا التدخل في سياسات الدول في مختلف بقاع الأرض.
وقد خضعت دول عديدة للإرادة الأميركية خاصة تلك الدول التي تتلقى مساعدات مالية أو أمنية من الولايات المتحدة، لكن بعض الدول رأت في الأمر شذوذا وخروجا عن القانون الدولي وما يسمى بالشرعية الدولية، ورأت في التصرفات الأميركية إهانة وإذلالا مثل روسياوالصين. لم يكن من المتوقع أن تكون الطريق أمام أميركا ممهدة تماما على الرغم من النجاحات التي حققتها في الاستعمار الفكري والثقافي، وردود الفعل المتحدية كانت تنتظر الظروف المناسبة.
رفعت الدول الغربية سقف نزعة الهيمنة لديها وهي تقرر تمدد حلف الأطلسي شرقا، وتنشر الدرع الصاروخية في أوروبا وعلى حدود روسيا. لقد شكلت هذه التصرفات استفزازات قوية لروسيا التي رأت نفسها تختنق بالإجراءات العسكرية والاقتصادية. تواكبت الإجراءات العسكرية مع إجراءات اقتصادية من شأنها الضغط على الاقتصاد الروسي حتى لا تقوى روسيا مستقبلا على تأمين احتياجاتها العسكرية والخدمية والأمنية، فتبقى بحاجة لمعونات الدول الغربية. وكان قطاع الغاز الروسي الأكثر استهدافا من حيث العمل الحثيث على خفض الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي من خلال حرب أنابيب الغاز.
بررت الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة أعمالها العسكرية بأنها تواجه التطور الصاروخي الإيراني. وكان في ذلك الأمر استغباء للعالم.إيران لم تكن تملك، وحتى الآن لا تملك ما يكفي لخوض حرب صاروخية ضد أوروبا، وأوروبا تملك ترسانة هائلة من الصواريخ ومن القنابل النووية الكفيلة بردع إيران. كان واضحا أن حجم الصواريخ التي تنشرها الولايات المتحدة ونوعيتها أنها موجهة ضد روسيا وليس ضد إيران، ولم يكن من المتوقع أن تغفل روسيا عن هذا الأمر. معادلة التحدي الروسي للإجراءات الغربية لم تكن صعبة على فهم أحد، وإنما حاولت الولايات المتحدة الاختباء وراء تبريرات واهية. وفي أعمالها إنما كانت أميركا تدعو روسيا إلى رد الفعل واتخاذ إجراءات مضادة.
“روسيا ليست دولة أيديولوجية، ولا تروج لأيديولوجيا معينة تهدد الدول الغربية، إنما هي دولة لها مصالح؛ المعسكر الغربي معسكر استعماري في الغالب، وما زالت العقلية الاستعمارية تسيطر على العديد من أعضائه، والفرق بين دولة المصالح ودولة الأيديولوجيا كبير”
ومع هذا بقينا نسمع تصريحات أميركية حول استفزازات روسية للدول الغربية. وفي هذا يتطابق المنطق الأميركي والمنطق الإسرائيلي.”إسرائيل” تشتري أفضل أنواع السلاح وتهاجم العرب إذا تسلحوا على اعتبار أن السلاح العربي يهددهم. دولتان معتديتان تتسلحان وتحاولان منع السلاح عمن تعاديان.
روسيا ليست دولة أيديولوجية، ولا تروج لأيديولوجيا معينة تهدد الدول الغربية، إنما هي دولة لها مصالح؛ المعسكر الغربي معسكر استعماري في الغالب، وما زالت العقلية الاستعمارية تسيطر على العديد من أعضائه. الفارق بين دولة المصالح ودولة الاستعمار أن دولة المصالح تعمل دائما على تأمين مصالحها ولا تريد أكثر من ذلك، أما الدولة الاستعمارية فتريد نهب الثروات، وتعتدي على السيادة وعلى الثقافة الوطنية، وتطور اقتصادا تابعا في الدولة التي تقع تحت أنيابها. المعنى أن الولايات المتحدة ومن حالفها أيديولوجيون، ويتمسكون بنظرية الهيمنة التي من المفروض أن تشمل كل العالم.
روسيا تستعيد بعض عافيتها
أعطت روسيا نفسها مهلة لتطوير قدراتها العسكرية خاصة في مجالي الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية والدفاع الجوي. بقيت الصناعة العسكرية الروسية التقليدية دون المستوى التقني للصناعات الأميركية والغربية عموما، وكانت بحاجة ماسة لحماية أجوائها وتعزيز قدراتها الردعية، وحققت الاثنتين معا. طورت صواريخ توبول العملاقة، ومجموعة الصواريخ المضادة للأهداف الجوية. وعملت على تطوير أوضاعها الاقتصادية لتكون قادرة على تحمل الإنفاق العسكري المتزايد، وساعدها في ذلك ارتفاع أسعار النفط والغاز على المستوى العالمي. ما زالت روسيا تعتمد بنسبة 65% من دخلها على النفط والغاز، وهي ساعية لتنويع مصادر دخلها، لكن مدخولاتها هيأتها لاتخاذ خطوات جريئة في مواجهة أميركا. وكانت جورجيا هي المفتاح.
بدأت روسيا بتحريك قاذفاتها الإستراتيجية فوق القطب الشمالي وفوق البلطيق وشمال آيسلاندا، وتحريك سفنها الحربية ومدمراتها في المياه الدولية استعراضا للقوة، ولم تتوقف عند عرض بعض صواريخها النووية المتطورة. وتواصل التحدي الروسي في شن حرب على جورجيا دون أن تحرك أميركا التي تعهدت بحمايتها ساكنا. ثم تطور الوضع للسيطرة من جديد على شبه جزيرة القرم، ومن ثم دعم المتمردين في شرق أكرانيا.
ومن المحتمل أن تتطور الأمور لاتخاذ إجراء مضاد ضد بولندا التي تنشر الدرع الصاروخية، وربما ضد النرويج المتساوقة مع سياسة الهيمنة الغربية. ومؤخرا وصل التحدي أوجه في سوريا والذي شكل لطمة كبيرة لأميركا لم تستطع معه أن تحدد خطواتها التالية. أزاحت روسيا أميركا من المشهد السوري إلى درجة أن أميركا وقفت تنتظر دعوة روسية لحضور مؤتمر أستانا، لكن الملاحظ أن روسيا تملكها التردد في بعض الأحيان في الميدان السوري انتظارا لما يمكن أن يتخذه الغرب من خطوات. والتردد ما زال قائما حتى الآن.
تتواصل التصريحات “التخاصمية” بين الطرفين الروسي والغربي، وتدخل أحيانا الصين على الخط. الغرب يتهم روسيا بتصعيد التوتر، ويتهمها باتخاذ سياسات معادية، والروس يوجهون اتهامات للغرب بعدم التعاون وبرفض الشركاء في صياغة توجهات السياسات الدولية، والأميركيون وجهوا اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية والقيام بأعمال قرصنة إلكترونية لصالح مرشح ضد آخر.
“تحاول روسيا والصين كسر المعادلة القطبية، وتريان أن التغول الأميركي على الساحة الدولية يقود إلى التوتر وارتفاع نسبة النزاعات في العالم، وتعدد الأقطاب يخفف كثيرا من الصراعات البينية والإقليمية. ويبدو أنهما عازمتان على التحدي ولي ذراع أميركا”
الدول الأوروبية تصرح حول العداء الروسي، وأن روسيا تهدد الأمن الأوروبي وأطماعها في الدول الأوروبية تتزايد. أما الصين فتشارك روسيا رؤيتها لعالم متعدد الأقطاب، وترفض الهيمنة الأحادية على القرار الدولي.
تحاول روسيا والصين كسر المعادلة القطبية، وتريان أن التغول الأميركية على الساحة الدولية يقود إلى التوتر وارتفاع نسبة النزاعات في العالم، وتعدد الأقطاب يخفف كثيرا من الصراعات البينية والإقليمية. إنهما تبدوان عازمتين على التحدي ولي ذراع أميركا، وأميركا لا تريد التفريط بهيمنتها التي سهلت لها حل بعض المشاكل الدولية على الطريقة التي تريحها.
إمعان الغرب في التوتير
يخطئ من يظن أن الغرب وبالذات الولايات المتحدة ستعمل على خفض التوتر على المستوى العالمي لأنها محكومة بنظرية قائمة ومعمول بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد خاضت أميركا حروبا متكررة في عدة بقاع من العالم، وخسرت في أغلب الأحيان، لكنها لم تراجع نظريتها أو مقارباتها للمشاكل العالمية. ومن الملاحظ أنه يصعب على أميركا أن تبقي أنفها خارج أي مشكلة تطرأ على الساحة الدولية، وكأنها تريد التأكيد باستمرار على علوها.
وسنجد أنها تحصل على تأييد الدول الغربية واليابان في أغلب الأحيان؛ صحيح أن الحرب الباردة ليست مشتعلة الآن، لكنها ستشتعل إذا استمرت محاولات روسيا والصين إقامة عالم متعدد الأقطاب. لن تتوقف المحاولات الأميركية لحصار روسيا عسكريا واقتصاديا، ولإضعاف الصين اقتصاديا. تتخذ الدول الغربية موقفا من الأيديولوجيات لما يمكن أن تسببه من نزاعات بين الأمم، والأولى بها هي أن تتوقف عن التعامل مع العالم وفق منطق أيديولوجي.
تخطئ دول العالم التي تبحث عن الاكتفاء الذاتي لسد رمق شعوبها إن دخلت في معارك الأقوياء. الأقوياء لهم مصالح من الصعب أن تتطابق مع مصالح الضعفاء، والمفروض أن التاريخ علم الضعفاء ألا يكونوا وقودا للأقوياء. لقد دفعت دول العالم الثالث أثمانا باهظة في حروب الوكالة، وعسى ألا يكون الغباء السياسي حاضرا الآن.
(هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع).
المصدر: مركز الدراسات الاقليمية – فلسطين