بفضل الثغرات الموجودة في القانون تمكن الأهالي من إمتلاك الأرض والبناء عليها، ليكونوا شركاء بأسهم عقارية مساوية لأسهم الدولة في أرض بابا عمرو. هذا الواقع ترك المنطقة دون تنظيم بسكن عشوائي وخدمات فقيرة دون تخطيط عمراني وبقيمة عقارية متدنية.
بالطبع هذا الواقع يشرح الحال قبل الأزمة السورية التي دمرت الحرب الطاحنة التي دارت في شوارع بابا عمرو_ كأحد الأمثلة_ الأكثرية العظمى من كافة منشآتها وبيوتها وبنيتها التحتية. الأمر الذي أعطى سبباً مضاعفاً للتفكير في هذه المنطقة المنكوبة كحالة دراسية نموذجية لما بعد الحرب.
فإعادة إعمار بابا عمرو قد تتضمن تحدياتٍ جمة ولا بد من التفكير ملياً في كل منها.
لذلك فالمشروع المقترح تضمن دراسة للواقع الديموغرافي السابق للحرب في بابا عمرو، والذي يتلخص بوجود جيلين هم جيل الآباء الذين هاجروا بدايةً إلى المدينة وعملوا بشكل أساسي كموظفين وجيل الأولاد الذين إما حصلوا جامعياً أو أصبحوا من أصحاب الحرف. كذلك تبين وجود الإرتباط الأجتماعي العائلي بشكل كبير والتوجه الديني الملتزم كأساس في المجتمع. فأهالي بابا عمرو بمعظمهم ملتزمون بالدين الإسلامي ويعتبر الجامع والمنزل أهم مكانين في التركيبة المجتمعية.
غطت دراسة المشروع في تقرير مفصل التحديات والفرص إلى جانب نقاط القوة والضعف على نطاق الدولة والمدينة والمنطقة الأمر الذي لا تتسع له مساحة العرض الحالي ولكن يمكن التطرق إلى بعض التحديات التي يمكن أن تواجهها عملية الإعمار في بابا عمرو والتي تلخصت من وجهة نظرنا في:
– الشرخ الاجتماعي: فقد خلق الصراع المسلح الدامي شرخاً إجتماعياً هائلاً في المجتمع السوري وفي بابا عمرو تحديداً شهدت عدة عائلات مع أطفالها جرائم وحشية مما سيشكل وحده تحدياً هائلاً أمام أي عملية إعادة إعمار في المنطقة ويلقي بمسؤولية كبيرة أمام القيمين. كذلك يوجد تحدي متعلق آخر هو موقع بابا عمرو من الصراع كمنطقة أساسية والذي قد يجعلها في نظر الفرق المتصارعة إما مكاناً “للإحتفال” أو مكاناً “للإنتقام” وهذا ما يتوجب الحذر منه أثناء التصميم والتنفيذ.
– الحالة الاقتصادية: المستمرة بالتدهور على صعيد الفرد والمجتمع وأصبحت في مكانٍ لا يمكن التنبوء بآثاره.
– المناخ: الحار في الصيف والبارد في الشتاء.
– خطر الإنطواء: وهوما يجب العمل عليه بحذر من أجل إعادة اللحم الاجتماعية وتحقيق الدمج الإجتماعي دون إكراه.
– صيانة السكن: الكثير من الأبنية في سوريا تظهر مقبولة وينتهي الأمر بها في حالة مزرية بسبب عدم وجود الصيانة والعناية المستمرة لذلك لابد للمقترح أن يأتي بحلول إبداعية للحفاظ على الأبنية بحالتها الأصلية.
– بعض الخطط الحكومية: ضمن الدراسة الاصلية للمشروع تم التطرق مفصلاً لأهم التحديات التي يعاني منها قطاع الإسكان في سوريا ومن أهمها عدم وجود رؤية إستراتيجية تخطيطية واضحة وإستشراء الفساد المعطل لأي عملية إصلاح. وبهذه الحال لن تكون بابا عمرو إستثناء فالخطط الرامية لإعادة بنائها كمنطقة أبراج مفردنة وكئيبة من الصناديق كما هي حال مناطق السكن الجماعي في كامل سورية سيجعل منها إما مدينة أشباح أو سيتم بيعها لغير ساكنيها وهجرانها عودةً إلى القرى الأم.
يمكن هنا طرح مثال بسيط هو سكن المعلمين الذي تم فرضه سابقاً على أهالي المنطقة وإستبدال الحاكورة كملتقى إجتماعي ديني بأبراج سكنية جوفاء وإستقدام سكان جدد إليها فكان الحال أن تم إقصاء المجموعة الوافدة واللجوء إلى الإنطواء الاجتماعي.
أما بالنسبة للفرص ونقاط القوة فيمكن رؤيتها كالتالي:
– المنطقة مدمرة بنسبة 90% الأمر المؤسف والمحزن ولكنه بالرغم من ذلك يمكن أن يستغل كفرصة لإعادة التنظيم من الصفر لمنطقة عشوائية ملئية بالأخطاء التصميمية والعمرانية.
– وجود منطقة تاريخية والمسماة شعبياً بـ “الحاكورة” والتي كانت بمثابة منطقة للإحتفالات الشعبية وخاصة الإحتفال الديني المسمى “خميس المشايخ” والذي كانت حمص بأكملها تشارك فيه. كذلك وجود أنفاق وآثار تعود للعصر الروماني في ذات المنطقة والتي يمكن أن تتحول إلى مركز ثقافي مدر للمنطقة والمدينة ككل.
– موقع بابا عمرو الفريد ما بين البساتين الزراعية المشكلة للحزام الأخضر وساقية الري وسكة القطار والجامعة الحكومية والإستاديوم الرياضي الحكومي والمنطقة الصناعية الخاصة بالصناعات الخفيفة والتي يعمل بها أفراد من الجيل الثاني الذي تطرقنا له.
– القوة العاملة في بابا عمرو والتي تمثل خليطاً قوياً من المثقفين الجامعيين وأصحاب الحرف المهرة إلى جانب النساء المنتجات في مجالات حفظ الأطعمة ومتعلقاتها من الخبرة القروية الوافدة إلى المدينة هذه التركيبة الفريدة يمكنها أن تتفوق إنتاجياً وأن تغني المنطقة إذا ما تم إفساح المجال أمامها للعمل كمجتمع.
من هنا إنطلق التصميم في التفكير أولاً وآخراً في كيفية خلق فرص لنمو المجتمع وخلق عمارة ذات دور في إعادة التلاحم المجتمعي والشفاء من الجروح. دون فرض الحلول بل إحترام نوعية الحياة الأصلية وطريقة التفكير الفطرية الموجودة في المجتمع المصغر مع تطوير كل ذلك من خلال العمران والعمارة.
قخلال التالي:
– تم إقتراح مركز إحتماعي ثقافي يتركز حول الجامع كمركز لنشر الوعي والعلم من خلال إعادة تعزيز دوره ليس كمكان للعبادة وحسب وإنما للتنوير فتضمن التصميم مكتبة علمية دينية تحت الجامع، تطل على الحاكورة (ذات المنسوب الخفيض) والتي ستستخدم بدورها كماكن للإحتفالات الشعبية كما في الماضي إضافة إلى خلق حدبقة عامة مطلة عليها من الجهة الشرقية بحيث يضم المركز بالمجمل: حديقة عامة، متحف للآثار الرومانية الموجودة تحت الحديقة، الحاكورة كملتقى ثقافي إجتماعي، مكان عربات الطعام حيث يمكن للسكان المحليين وغيرهم بيع مصناعاتهم على شكل عربة-مطعم تقف في الساحة العامة المجهزة، الجامع الكبير، المكتبة تحت الجامع، المستنبت الأخضر حيث يمكن أن تقام المعارض الزراعية والتي سيشارك بها السكان بخلفيتهم الزراعية. تمت دراسة المركز بالتفصيل ودراسة حركة السيارات ولحظ المواقف تحت الأرض وحركة العربات الكبيرة وكيفية تزويد الحاكورة بالمنشآت المؤقتة ليصبح المركز مصدر دخل إقتصادي معتبر للمنطقة، مكان علمي وتنويري، متنفس أخضر مفتقد في كامل المدينة، مركز ترفيهي ثقافي كل ذلك بشكل يرتبط بما يهواه ويحسن فعله سكان المنطقة.
– تم تنظيم سوق الخضار الذي كان يعرف بالأوساخ المتناثرة وعدم الأمان بسبب إختلاط حركة المشاة بالسيارات في حين يتضمن القترح الجديد دراسة فصل حركة ومواقف وتزويد خلفي.
– تم تنظيم المنطقة الصناعية وتجميع ورشات الحرف المتناثرة في شكل بازار حرفي في الزاوية الجنوبية الغربية من المنطقة بحيث تؤمن فيه المواقف والسيارات ويكون قريباً من سكن العاملين فيه مع ذلك يرتبط مع الطرق الرئيسية ويجاور ساقية الري التي يمكن تفعيلها بحيث تؤمن المياه اللازمة للصناعة.
– تم تقسيم المنطقة إلى زونات شبه متساوية على أساس شبكة العنكبوت لتقصير الطرقات والمسافات الفاصلة والواصلة للمركزمع إرتباط سريع مع كافة الطرق الرئيسية مع العلم أن المنطقة مقسومة أصلاً بواسطة طريقين رئيسين متصالبين لا يمكن العبث بهما بسبب وجود المجرور الرئيسي لمدينة حمص تحتهما.
– من هنا إنطلق التصميم من تثبيت الثابت ومن ثم التقسيم عنكوبتياً ولحظ مدرسة وروضة ومركز صحي وجامع في كل زون. إلى جانب الساحات العامة والحدائق التي كانت مفقودة تماماً في المنطقة هذه المساكب الزراعية تمت دراستها بحيث يمكن أن تستنبت على يد القاطنين لتوفر دخلاً إضافياً إلى جانب الفائدة البيئية.
– إنطلق التصميم عمرانياً من فكرة الشجرة كوحدة قابلة للتكرار والأهم قابلة للتوسع حيث تم تصميم الوحدة السكنية الشجرية على شكل وحدات متراكبة بالتناظر تحتوي باسيوهات طابقية تمت دراستها بحيث لا تطل إحداها على الأخرى هذا كان له عدة فوائد:
– التركيبة الإنسانية للسكان ترتبط بالبيئة الطبيعية إرتباطاً وثيقاً كذلك فإن الخلفية القروية تفرض نمط حياة يستخدم الحديقة كوظيفة أساسية للغسل والطبخ والإنتفاع إلى جانب الدور البيئي والمناخي المعروف للباسيو.
– ساهم الباسيوهات أيضاًفي إخفاء المظاهر الحياتية التي قد تكون غير مرغوبة كالسجاد والغسيل المنشور أو تجفيف الأطعمة.
– ستسخدم الباسيوهات لعمليات تصنيع الأطعمة من تجفيف وغيره والتي لحظ التصميم أمكنة تصريف لها في المحلات أسفل الواحدات من أجل الفائدة الإقتصادية وتعزيز دور المرأة.
– في قاعدة الوحدة الشجرية تم توضيع محلات، كافيات ومطاعم صغيرة، إستودديوهات كل ذلك سيساهم في إغناء الحياة ويحول دون موت المنطقة في أي ساعة من ساعات اليوم كذلك سيدعم المنطقة إقتصادياً وإجتماعياً.
– ضمت الوحدة الشجرية وحدات سكنية مخالفة الحجوم لتتلاءم مع مختلف الطلبات.
– يمكن للوحدة الشجرية أن تكبر كما تكبر الشجرة للتلاءم مع النمو السكاني.
– ترتبط الوحدة الشجرية مع مجاورتها مما يشكل الدعم الإنشائي ويخلق “بنياناً مرصوصاً” إنشائياً ومع ذلك يبقي على فراغات واسعة مظللة وغير مظللة تستخدم لمواقف السيارات والملاعب والساحات العامة كما تظلل الشوارع كما كانت تفعل السيباطات في المدنا لقديمة ومع ذلك لا تطل الوحدات على بعضها بفعل التوجيه المدروس لكل من البيوت والفتحات.
– تخلق الوحدات الشجرية تنوعاً بصرياً ويمكن أن تمتد عمرانياً إلى اللانهاية من خلال “الإمساك بيد” مجاوراتها كما يمكنها أن تكبر معمارياً من خلال زيادة الوحدات.
– أهم ما في الوحدة الشجرية أنها تتوجه داخلياً على فناءاتها الخاصة وكذلك تؤمن فراغات خارجية بذات القدر من الحماية والغنى الذي تخلقه داخلياً.
أما بالنسبة للصيانة وكيفية البناء فقد تضمن المقترح أفكاراً لتكوين لجان حي من أهالي بابا عمرو يتم تمويلها عن طريق الأفكار الاقتصادية المقترحة.
المشروع فاز بالمرتبة الأولى على الصعيد الوطني في مسابقة إعادة إحياء السكن الجماعي التي أقامتها الأمم المتحدة.
إعداد الدراسة والتقرير: مروة الصابوني
مصمم المشروع: مروة الصابوني