لا يقرأنّ المقطوعات الموسيقية بعيونهنّ، أو يرين عصا المايسترو تتمايل بالتعليمات، لكن يقودهن الإحساس وأنامل مبصرة تداعب آلات موسيقية صماء لينطلق منها نغم يضج بالنور والحياة.
هن عضوات أوركسترا جمعية خيرية خاصة تعرف باسم “النور والأمل”، عازفات مكفوفات عددهن 43، أعمارهن بين الـ15 والـ45، انطلق حلمهن من مقر الجمعية الرئيسي شرقي العاصمة المصرية، التي تأسست عام 1954 وبدأت في تنظيم حفلاتهن في عام 1972.
في ذاك المقر، تجتمع المكفوفات مرتين أو ثلاثة أسبوعيا بقيادة المايسترو محمد سعد باشا، لصقل مهارتهن في عزف المقطوعات المكتوبة نوتتها الموسيقية بطريقة برايل، تفيض قلوبهن بالجمال وكأنهن يدركن الآية القرآنية “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الآية 46 سورة الحج).
وطريقة “برايل” هي نظام كتابة أبجدي ابتكره الفرنسي لويس برايل، ليستطيع المكفوفون القراءة، كلٌ حسب لغته، حيث يجعل الحروف رموزاً بارزة على الورق؛ مما يسمح بالقراءة عن طريق حاسة اللمس، وقد صدر أول منشور بهذه الطريقة عام 1837.
** موسيقار الأنامل المبصرة
محمد سعد باشا، قائد أوركسترا “النور والأمل” يرى أنّ “الموسيقى هي الهواية المفضلة للمكفوفين التي يستعيضون بها عن البصر، ويهتمون بتنميتها لتُضئ البصيرة والروحانية لديهم”.
ويشير إلى أنه ظهر عازفون مكفوفون شغلوا الدنيا بمعزوفاتهم وألحانهم، مثل الشيخ إمام وسيد مكاوي في مصر، وعازفة القانون خلود البطاينة وعازف الأورغ إسماعيل قدري في الأردن، وسليم كركوكلي في العراق وغيرهم.
وعن كيفية تدريب الكفيفات، يضيف “باشا”: “تدريبهن يختلف تمامًا عن المبصرين، لأنه لابد أن تُكتب المقطوعة أو المدونة الموسيقية بطريقة برايل أولًا ثم تحفظها كل عازفة بشكلٍ مُنفرد”.
ويتابع “بعدها يتم جمع كل العازفات اللائي يعزفن على آلات موسيقية مُتشابهة، ويتم تدريبهن بشكلٍ جماعي، وأخيرًا تجتمع الفرقة كلها بمختلف آلاتها الموسيقية لإجراء البروفات التي تظل مستمرة حتى تتقن كل منهن عزفها”.
ويستطرد مايسترو النور والأمل: “الفرقة تستخدم الوتريات وآلات النفخ الخشبي والنحاسي والإيقاع”.
ويلفت إلى أنه “يتم تحديد الآلة المناسبة لكل فتاة حسب البنية الجسمانية لكل منهن، فصاحبة الأصابع الطويلة تعزف بمهارة على آلة الكمان، أما صاحبة البنية الضعيفة فتكون آلة الفلوت مناسبة لها، وأخيرًا صاحبة البنية الجسمانية القوية يُوكل إليها العزف على الكونترباص الضخمة”..
ومن أشهر العروض التي قدمتها الفرقة، كما يقول، حفل في 21 يونيو عام 2009، وهو اليوم العالمي للموسيقى، في مدينة “كوفريه” بفرنسا، بالإضافة إلى تقديمهن عرضًا أوبراليًا بعنوان “أيام وليالي شجرة القلب” الذي ألفه الفرنسي الجزائري طارق بن ورقة في نوفمبر (تشرين ثان) عام 2015 في قاعة “غافو” الشهيرة في باريس بحضور وزيرين فرنسيين وسفير مصر في باريس وقتها.
وينوّه “باشا” إلى أنّ عضوات الفرقة بعضهن طالبات بالجامعة، ومنهن من تعمل بالمؤسسة التي تحرص على توفير فرص عمل لهن فور تخرجهن، لافتًا إلى أنّ الفرقة الحالية هي الجيل الرابع بالأوركسترا.
ويدافع عن المشروع الموسيقي للمكفوفات قائلا “هذا مشروع فريد من نوعه، لم يحدث في العالم أن يكون هناك فريق محترف كله كفيفات”.
وبمشاعر دافقة يوجه الدعوة إلى الاهتمام الإعلامي والحكومي بالفرقة، وإنجازاتها المنيرة المبعدة عن دائرة الضوء.
** سلم الصعود لأوكسترا النور والأمل
وحول كيفية الصعود لسلم أوكسترا المكفوفات، تقول نجاة رضوان، مدير معهد الموسيقى بجمعية “النور والأمل”، إنّ أسر الفتيات الكفيفات تتقدم بأوراقهن إلى المدرسة الابتدائية بالجمعية من عمر السابعة ليلتحقن بالصف الأول الابتدائي، ويبدأن الدراسة حتى إتمام هذا الصف.
وتُبين “رضوان” أنه بعد انتهاء الصف الأول تكون الفتاة قادرة على القراءة بطريقة “برايل” حين ذلك يقوم المعهد بأخذ الفتيات ليلتحقن به ويتم تدريبهن وتأهليهن لفترة معينة، ثم يتم تشكيل لجنة تختبر الفتيات وتحدد من منهن يمكنها الاستمرار في الدراسة في معهد الموسيقى، ومن تجتاز الاختبار تتابع دراستها بالمعهد مع دراستها بالمدرسة، ومن لا تجتازه تستمر في الدراسة بالمدرسة فقط.
وتوضح أنّ الفتاة تدرس دراسة مزدوجة، فتلتزم بالدراسة صباحًا في المدرسة وفترة بعد الظهيرة في المعهد الموسيقي حتى المرحلة الثانوية، وحين تنتهي منهما تحصل على شهادتين الأولى إتمام المرحلة الثانوية العامة، والثانية إتمام المرحلة الثانوية بمعهد الموسيقى، عقب ذلك تلتحق الفتاة بالكلية التي تريدها، ومنهن من تلتحق بكلية التربية الموسيقية أو معهد الموسيقى العربية.
وتؤكد “رضوان” أنّ المعهد لا يستفيد أي شئ من دراسة الفتيات، فالفتاة لا تدفع جنيهًا واحدًا طوال فترة الدراسة، فالمعهد يقوم على “التبرعات” ومن خلالها يشتري لهن أدوات الدراسة، مُشيرةً إلى أنّ عمل “المعهد” خيري ويهدف إلى ترفيه الكفيفات وتنمية مواهبهن الموسيقية.
** الحلم العازف
فيما تقول “شيماء يحيى” الحاصلة على بكالوريوس ألسن (كلية لدراسة اللغات) من جامعة عين شمس (الحكومية)، التي تبلغ من العمر 33 عامًا، إنها تعمل مُدرسة لغة إنجليزية للمرحلة الإعدادية بمدرسة “النور والأمل”، بالإضافة إلى أنها عازفة في الأوركسترا بعد الظهر.
وتروي شيماء قصتها مع العزف: “ذات يوم سمعت صوت موسيقى وعزف بالمعهد جذبتني لمحاولة الالتحاق به ونجحت في اختبار دراسة الموسيقي”.
“كانت أمنيتي أن أعزف على الكمان، ونجحت في ذلك” هكذا تواصل شيماء حديثها وقد أنارت ملامحها بالفرح والإثارة، مُتذكرة سعادتها الجمة عندما وافق المعهد على تعليمها ليحقق “حلم حياتي” كما تصفه.
وتلفت إلى أنها اشتركت في ثلاثة فرق أوركسترا بالمعهد، الأول أوركسترا “النونو” (لفظ تدليلي يطلق على الصغار بمصر) الذي يضم أصغر العازفات من الصف الثاني الابتدائي وحتى الرابع الابتدائي، وبعد ذلك التحقت بأوركسترا “صغير” الذي يضم العازفات من الصف الرابع وحتى الثالث الثانوي، وأخيرًا الأوركسترا الكبير الذي يضم الفتيات الماهرات اللائي أتقنَّ العزف تماما، وهو الذي يقدم الحفلات سواء داخل مصر أو في جميع أنحاء العالم.
وتقص أنها سافرت مع الأوركسترا لأول مرة إلى كندا وكانت أصغر عازفة بينهن، حيث كانت طالبة في الصف الثاني الإعدادي، الأمر الذي كان يُسبب لها التوتر خوفا من أن تُخطئ خلال العزف، ولكنها صممت على أن تعزف بشكل متميز دون أي خطأ لذلك كانت تذاكر وتحفظ النوتة الموسيقية وتطبقها لوقت طويل جدًا، وبالفعل نجحت في ذلك.
وبفخر تقول شيماء إنّ الأوركسترا قدّمت حفلات كثيرة على أكبر المسارح في العالم، منها في كندا وفرنسا وألمانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا والمجر والنمسا والهند وأستراليا، مؤكدةً أنّ العازفات المصريات الكفيفات حظين بحفاوة كبيرة، وتلقين إعجابا جارفا في الدول الأجنبية التي سافرن إليها جميعها.
وتطالب شيماء نقابة الموسيقيين بمصر بالسماح بانضمام عضوات الفرقة لها، فكما توضح “فريق الأوركسترا هذا رفع اسم مصر في أكثر من دولة عربية وأجنبية وعضواته أولى بالرعاية”.
كما تدعو الإذاعة المصرية الحكومية لبث مقطوعات من عزف فريق “النور والأمل”، قائلةً: “أحلم في يوم أسمع الإذاعة تقول والآن سنستمع لمقطوعة من عزف أوركسترا النور والأمل”.
ولا توجد أرقام رسمية عن أعداد المكفوفين في مصر، غير أن منظمات غير حكومية تقول إنهم أكثر من مليوني شخص من إجمالي عدد السكان البالغ في داخل البلاد نحو 93 مليون نسمة.
وكالات