لا يجد الناقد والسيناريست المصري المخضرم وليد سيف حرجا في تسليط الضوء على حلقات ضعف السينما المصرية، التي يرى أنها لم تخرج بعد من دائرة الأزمة التي تجترها منذ
سنوات ليست بالقصيرة، ويعزوها إلى غياب سياسة حقيقية من قبل الدولة لدعم القطاع، فضلا عن تدهور إمكانيات كبريات شركات الإنتاج الخاصة.
ويتابع وليد سيف -الذي تولى مناصب مهمة في هيئات إدارة السينما والمهرجانات، فضلا عن تجاربه في كتابة سيناريوهات أفلام عديدة، ومواكبته النقدية لأجيال من الأعمال السينمائية- تفاعل السينمائيين العرب مع زمن الحراك العربي، مبينا أن الأفلام التي نجحت في تجسيد مخاض اللحظة التاريخية وسبر أبعادها تبقى استثناءات قليلة، خاصة في ظل رؤية مشوشة ومتباينة تجاه ما وقع.
ويرفض سيف نزوع بعض النقاد إلى اختزال إشكالية تواضع السينما العربية -بوجه عام- في غياب نصوص قوية، لأن السيناريو بالنسبة إليه لا يكتسب قيمته ودوره في نجاح العمل إلا في امتزاجه مع رؤية إخراجية راقية تحوّل النص الورقي إلى متعة بصرية.
للفيلم العربي مكانته في المشهد العالمي، حسب الناقد المصري، الذي سبق أن ترأس المركز القومي للسينما، وإن كان الطريق يظل طويلا من حيث غيابه عن أكبر المهرجانات الدولية، مقارنة مع تجارب إقليمية مثل السينما الإيرانية.
وليد سيف حل بمدينة وجدة (شرق المغرب) ضيفا على مهرجانها للسينما المغاربية في دورته السادسة، حيث يقدم ورشة حول التحليل الفيلمي، ويشارك في ندوة “الثورة الرقمية والحراك العربي”. ومنها كان الحوار التالي:
شريحة كبيرة من النقاد تردد أن السيناريو هو الحلقة الأضعف عموما في الفيلم العربي، فما تعليقكم كناقد وسيناريست على هذا الرأي؟
لا أوافق على أن السيناريو عطب السينما العربية؛ هو جزء من المشروع فقط، وإن كان الأساس. السيناريو ينزل ويعلو بحسب كفاءة المخرج في التعامل مع النص وتطويعه بصريا. إن دور السيناريو في نجاح العمل لا يتحقق إلا في إطار علاقة تعاون بل امتزاج فكري كامل بين الكاتب والمخرج، وكلما توحدت الرؤى وتمازجت زوايا الرؤية كانت النتائج أفضل من حيث جودة الفيلم ككل.
لكن كيف ترتسم الحدود بين السيناريو وإدارة المخرج؟
ربما أكون متطرفا في الاعتقاد بأن السيناريو لا ينفصل بتاتا عن عمل المخرج؛ الانفصال ينبغي أن يتحقق على مستوى آخر من خلال سن تقاليد الكتابة في إطار ورشات لتطوير السيناريو، التي لا تقتصر على السيناريست والمخرج، بل تدمج شخصيات تفهم أسرار السينما، وقادرة على رصد أوجه الضعف واقتراح مداخل ومسالك لبناء نص قوي.
وهذا أمر بات معمولا به في عدة تجارب من السينما العالمية، بل أرى أنه من الواجب إشراك الممثل في بلورة الصيغ النهائية للسيناريو، بوصفه الشخص الأكثر إحساسا بالشخصية، وإن شعر بأن ثمة اختلالات في بناء الشخصية فلن يستطيع أن يؤديها على أكمل وجه.
“وليد سيف: نحن في حالة تشتت في الرؤية تجاه ما حدث، ثم إنه على أرض الواقع المجتمعي لم يحدث تغير جذري يحقق أهداف الثورة، بما يستنفر محاولات قراءة متعددة الأبعاد للواقع الجديد”
أستحضر تجربة مع الممثل الراحل أحمد زكي في فيلم “امرأة واحدة لا تكفي”، كنت مكلفا بمعالجة السيناريو الذي كتبه عبد الحي أديب، وكنا نعمل بتفاعل مباشر وحميمي مع أحمد زكي الذي كان يغضب ويحبط كطفل حين يشعر بأن ثمة ثغرة أو فراغا ما في المواقف الدرامية أو تفاعل الشخصيات، ثم يفرح كطفل صغير حين نهتدي إلى صياغة المواقف التي تقوده إلى ذروة الإحساس والتطابق مع الشخصية.
ما معادلة الموهبة والصنعة في إنجاز السيناريو؟
كنت أختلف مع النجم الراحل نور الشريف الذي كان يرى في السيناريو صنعة بالدرجة الأولى، وكان متطرفا في هذه الفكرة، وظل يعتبر السيناريو عملية دقيقة المفاصل محددة المسارات، لكن قناعتي أنك حين تقول إن السيناريو حرفة فإنك تقلل من شأن الموهبة. والحال أنه في الفن لا يتعلق الأمر بمعرفة القاعدة والتقيد بها، بل يظل الرهان الحاسم على لحظات متوهجة من الإبداع خارج الأطر التقليدية، وتناول الشخصية بإحساس ينقل المرء إلى مناطق لم يتخيل الوصول إليها؛ الإبداع الحقيقي هو كسر القواعد لكن طبعا بعد فهمها وهضمها.
تتابع تطور السينما العربية عبر عقود، وصداها في المحافل الدولية التي تواظب على حضورها، أين يتموقع الفن السابع العربي في المشهد العالمي؟
مفهوم العالمية يختلف حسب المراحل والتطلعات؛ ففي وقت كنا نعدّها القدرة على اقتحام هوليوود، ولاحقا اقتحام الساحة الأوروبية. وفي رأيي، العالمية هي أن نحقق وتيرة إنتاج متنوعة تصل إلى قطاع عريض من الجماهير من ثقافات مختلفة.
كنا نعتقد بأن السينما المصرية محلية أو عربية الانتشار على أفضل تقدير، لكنني شخصيا كمستشار ثقافي في الاتحاد السوفياتي سابقا، اكتشفت أننا كنا في قلب العالم دون أن ندرك ذلك؛ الناس كانوا يسألونني عن “باب الحديد” و”خلي بالك من زوزو”، وعن نور الشريف ومحمود ياسين.
الأهم هو توسيع دائرة الناس الذين تصل أعمالنا إلى قلوبهم، لكن بالتأكيد على مستوى التواجد في المهرجانات الدولية الكبرى تبقى الحصيلة متواضعة، فلا يمكن -بمجمل تجاربنا العربية- أن نضاهي قوة سينمائية مثل إيران، التي يبدي منظمو أهم التظاهرات السينمائية حرصا على استضافة أعمالها ومتابعة جديدها.
قبل تحقيق العالمية، ألا ترى أن الفيلم العربي يعيش غربة في محيطه العربي نفسه؟
هذه حقيقة قائمة، حينما كنت رئيسا للمركز القومي للسينما كان من أهدافي تعزيز حضور الفيلم العربي داخل مصر، وعرض الأفلام العربية في القاعات التجارية المصرية من خلال اختيارات تناسب ذوق الجمهور العام، إلى جانب تهيئة دور عرض خاصة تقدم وجبات من السينما من كل العالم، ومنها العالم العربي.
من المفارقة أننا نصبو إلى العالمية بينما الفيلم العربي غريب حتى في بلاده، فما بالك خارج الحدود. حاليا، نحن بصدد التأسيس لنموذج يمكن الاقتداء به على مستوى العلاقات بين الهيئات السينمائية المصرية والمغربية تصب في اتجاه أفكار طموحة لتحقيق حالة من التفاعل والتبادل السينمائي، بين الجهات الوصية ومعاهد التكوين والجمعيات المهنية للاستفادة المتبادلة من التجارب وتوسيع نطاق انتشار الأفلام بين الجماهير العربية، إنه مشروع يحتاج نفسا طويلا، وأرجو تعميمه على الصعيد العربي.
منذ سنوات طويلة يتردد حديث الأزمة في السينما المصرية، فإلى متى؟
السينما المصرية تمر فعلا بأزمة، وطالت للأسف، وقد تفاقمت الأزمة مؤخرا نتيجة غياب الدولة تماما عن دعم السينما. نحن نتحرك ببطء شديد ولا نوايا صريحة لدعم الفيلم المصري من قبل الدولة. أما بالنسبة للإنتاج الخاص فكانت لدينا شركات قوية لكن مع قيام الثورة كان من العسير أن تواصل أنشطتها في ظل الهاجس الأمني والاضطراب السياسي وحتى المزاج العام للجمهور الذي ابتلعته أحوال السياسة، النتيجة كانت مرحلة من تقلص شديد في الإنتاج، غير أني أعتقد بأن الفترة القادمة تبشر بحال أفضل.
كيف تفسر سيطرة الأفلام التجارية على المشهد السينمائي المصري؟
نعاني دورا سلبيا جدا للإعلام الذي يسهم في تراجع وعي المواطن، ونموذج ذلك البرامج التي تتصيد مشاهد الأفلام وعرضها للإثارة واستفزاز آراء الناس المحافظين. من الضروري العمل على الرقي بالرسالة الإعلامية. للأسف، ما زال الفيلم الرديء هو الذي ينجح والجيد هو الذي يفشل.
ما موقع النقد السينمائي المصري في هذه الوضعية؟
لا يمكن أن ننكر أننا نعرف تراجعا على مستوى الحركة النقدية المصرية. اعتدنا مؤخرا أنه في كل عشر سنوات يظهر ناقد أو اثنان، ولعل ضيق مساحة النشر أسهم في إفراز هذا الوضع، وللأسف المكانة الاعتبارية للناقد تتراجع في مصر على خلاف الحركة المنتعشة في دول عربية أخرى.
وماذا عن الهوة القائمة بين النقاد وصناع الأفلام؟
كان لدينا جيل عظيم من النقاد لا يكتبون في بيوتهم وينعزلون في أبراجهم العاجية، بل يتفاعلون مع السينمائيين ويحضرون أماكن التصوير، وبعضهم كانوا مستشارين لشركات الإنتاج، أما الآن فكثيرون يكتبون خارج محيط إنتاج الأعمال، والفنان حين يشعر بأن الناقد يتحدث عن أشياء افتراضية بعيدة عن واقع الإنتاج يفقد تقديره له، ثم لا ننسى أن السينما المصرية اعتادت على بناء نجاح واستمرارية الفيلم والنجم والمخرج على النجاح في القاعات، لذلك لا يلتفت السينمائيون كثيرا إلى رأي الناقد؛ فشباك التذاكر هو المعيار بالنسبة إليهم.
شكّل الحراك العربي لحظة مثيرة بالنسبة للسينمائيين العرب بظهور موجة من الأفلام التي تناولت حركة الشارع. لكن فنيا، هل نستطيع القول إن السينما العربية نجحت في التعبير عن هذه المحطة التاريخية؟
لا يمكن الجزم بذلك، باستثناء الأفلام التسجيلية التي أثمرت أعمالا مهمة في القبض على اللحظة التاريخية للحراك. كنت رئيسا لمهرجان الغردقة عام 2013، واطلعت على أكثر من 150 فيلما عن الثورة، لكن عدد الجيد منها لم يتجاوز خمسة أو ستة أفلام. المشكلة أننا في حالة تشتت في الرؤية تجاه ما حدث، ثم إنه على أرض الواقع المجتمعي لم يحدث تغيير جذري يحقق أهداف الثورة، بما يستنفر محاولات قراءة متعددة الأبعاد للواقع الجديد.
وكالات