رؤية مختلفة للأحداث !

نقد ما بعد الإسلاموية عرضٌ وتحليلٌ لدراسة “مكوّنات التيّار الإسلاميِّ في سوريّا”

0

عرابي عبد الحي عرابي

تمهيدٌ:

نشر “آصف بيات” عام 1996 ورقةً بعنوان: “قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي”، ناقش فيها تبلور وجهات اجتماعية وأفكارًا دينية جديدة داخل إيران في مرحلة ما بعد الخمينيّ التي جسّدها “التيّار الإصلاحيّ” في أواخر التسعينات. وقد تجسّدت هذه المرحلة الجديدة في حركات واتّجاهات اجتماعيّة يُعبّر عنها من قبل الشباب والطلبة والنساء والإصلاحيّين من علماء الدين؛ الأمر الذي أجبر النُّخب الإسلاموية على البدء بنقلة نوعية في مجالَي الفكر والسياسة في إيران، ومنذ ذلك الحين –وفقاً لبيات- تبنّى مراقبون بارزون في أوروبا وعدد من بلدان العالم هذا المصطلح -ما بعد الإسلامويّة- للإشارة إلى التحوُّلات في توجهات الإسلاميين الساخطين في العالم الإسلامي، حتى بات يمثّل “حالةً ومشروعًا” لتأطير المفاهيم السياسية ووضع الاستراتيجيات لبناء نماذج متجاوزة لمرحلة “الإسلاموية التقليدية” في المجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية.

تمثِّل “ما بعد الإسلاموية” -بحسب بيات- سَعيًا نحو دمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرّر، ومحاولةً لقلب المبادئ التقليدية للفكر “الإسلاموي” رأساً على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، ووضع التعددية محل السلطوية الفردية” محاولاً -في الآن ذاته- إظهار مزايا هذه الحالة والأسباب الاجتماعية التي تدفع إليها، والتفسيرات التي تحلل أطوار انتقال أصحابها من الحالة القديمة إلى الوضع الجديد.

وقد برزت في هذا السياق بعض القراءات النقديّة أو التكميليّة لأطروحة “آصف بيات” منها قراءة “توماس بيريه المعنونة بـ “الاتجاه الإسلامي الاستثنائي في سوريا، الإصلاحيّون السياسيّون والعلماء والديمقراطيّة” التي خصّصها للإشارة إلى عدم انطباق أطروحة “بيات” على حالة الإخوان المسلمين في سوريا وتحليل الأسباب التي جعلتهم متقدمين على غيرهم من الحركات الإسلامية في الأقطار الأخرى.

في خاتمة قراءته النقديّة لمفهوم “ما بعد الإسلامويّة” يحلّل “توماس بيريه” -مُتَعمِّقًا- البنية التي اعتمدها في فهم العلاقة بين مكوّنات التيّار الإسلاميّ ومحدّدات العلاقة التي تربط هذه المكوّنات بنظام الحكم التّسلّطي في سورية، مشيرًا إلى أنّ “آصف بيات” يفترض أنّ التطوُّرات في الخطاب “ما بعد الإسلامويّ” تصدر عن مراجعاتٍ نقديّة تجترح نمطًا جديدًا في التعامل الفكريّ والسياسيّ، كالقَبول بوطنيّة الدولة وعلمانيّتها وسلطة الدّستور والإقرار بمبدأ الحريّة الفرديّة؛ السبب الذي يشي بأَنّ توجُّهًا جديدًا يطرح عباءة الماضي يظهرُ -لدى الجماعات الدينية المنظَّمَة- ابتغاءً لتأسيس فعلٍ سياسيٍّ “ما بعديٍّ” مَقُودٍ بتجديدٍ فكريٍّ نحو سياقاتٍ آنيّةٍ ومستَقبَليّةِ، وهو -بحسب “توماس” ممّا لا يتحقّق بعمومٍ مُطلَق، مستندًا -في ذلك- إلى تأصُّل الممارسة الديمقراطية سياسيًّا في منهج حركة الإخوان المسلمين في سوريّا، إضافةً إلى الاحتراز من الوقوع في فخِّ المغالاة في افتراض تجانسِ جماعات هذا التيّار وعدِّها بنيةً متماسكةً بينما هي -في حقيقة الأمر- أصيلةُ الاختلاف في بُناها الداخلية ومحدّداتُ توجُّهاتها الفاعلة.

لقد ابتدأ التقديم لهذه المراجعة بشيءٍ من خاتمة قراءة “توماس”، ولذا فإنّه من الضروريّ -بطبيعة الحال- التّساؤل عن الأسباب التي أوصلته إلى رؤيته تلك؟

يشير “توماس” في مقدّمة قراءته إلى أنّ حملة القمع التي مارسها النظام السوري ضدّ “حركة الإخوان المسلمين” أدّت إلى ازدياد المظاهر الدينية في الحياة اليومية للمجتمع السوري، بل إنّ النظام ذاتَه -في سياق هذا التحوّل الاجتماعي- تخلّى عن مواقفه العلمانيّة “العدوانية” تدريجًا مع إبدائه تسامحًا أكبر تجاه الأنشطة الدينيّة “غير السياسيّة”. كما تبدي جماعة الإخوان المسلمين السوريّةُ مرونة سياسيّة تبدو استثنائية مقارنة بما عداها من الحركات الدينية في العالم العربي، ولعلّ ذلك عائد إلى التزامها طويل الأمدِ بمواقف تميل إلى الليبراليّة السياسيّة.

مشكلة المَنهج وإشكاليَّة الدراسة:

إن كان منهج “بيات” في تحليل “ما بعد الإسلامويّة” قائمًا على رصد التطوّرات والإضافات لدى الجماعات الإسلامية بغيةَ تصنيفها ضمن الاتجاه”ما بعد الإسلاموي” أو “التقليدي” بناء على مرونتها أو ثباتها فإنّ “بيريه” يقصد عبر المنظور ذاتِه التأكيد على أنّ رصدَ التَّطوّرات في الساحة الدينية -المحلّية- عبر هذه المنهجيّة باستخدام أدواتها تثير مشكلَتَي “الاختزال” الذي يطال مظهر الإسلاميّين الأوائل في مسائل محوريّة في رؤية ما “بعد الإسلامويّة” كالديمقراطيّة وحقوق الإنسان، إضافة إلى “افتراض التجانس” المستند إلى التماسك داخل التيّار الإسلامي، وهذا ممّا لا يمكن تحقُّقه بإطلاقٍ؛ -بحسبِ “بيريه”- إذ إنّه على الرغم من عدم رفضه مفاهيم “ما بعد الإسلام” السياسيّ -نظرًا لأهميتها في فهم عدد من التحوُّلات في كلٍّ من تركيّا وإيران- إلا أنّه يعتقد بأنّ الإصرار على سحب هذه المفاهيم على سائر الأقطار والتنظيمات “الإسلامويّة” و”ما بعد الإسلامويّة” سيؤدّي إلى قطع الواقع عن سياقاته ليتوافق مع سرديّاتٍ مسبقة.

بناءً على ما تقدّم تسعى ورقة “بيريه” إلى تقديم تصوُّرٍ ناقدٍ لمسألة عدم انطباق مفاهيم “بيات” على كون جماعة الإخوان المسلمين السوريِّين خارجة عن هذا الإطار التفسيري، إضافةً إلى تناول مسألة “تنميط” تحوُّلات الجماعات الإسلامية بناءً على افتراض تجانسها البُنيويّ ضمن صنفَي “المعتدلين” و”المتشدّدين” مُلفِتًا النّظر إلى تقسيم آخر لا يُغفِل عوامل التنوّع الداخلي والممارسة الاجتماعيّة اليوميّة، ومن ثمّ يختم الباحث الدراسة في المحور الثالث بتحليله لِكّونِ النظام محدّدًا رئيسًا في مسألة التجديد الدينيّ، بناءً على ترجيحه التعامل مع “العلماء” مقابل “الإصلاحيّين” من التيّار الإسلاميّ.

تحليلُ عوامل تجذّر الخطاب الديمقراطيّ لدى “الإخوان المسلمين السوريّين”:

أصدرت الجماعة عامَ 2004 “المشروع السياسيّ لسوريّا المستقبَل” الذي لا يخرج عن كونه حلقةً ضمن سلسلة مشاريع “وطنية وسياسية” تقدّمت بها الحركة منذ بداية أزمتها مع النظام السوري، ويتّضح التوافق الكبير في المضامين بين برنامج الوثيقة المقترَح وبين “بيان الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها” المُعلَن عنه عام 1980.

لقد صرّحت الوثيقة المتأخّرة بالتزام الجماعة بإنشاء “دولة ديمقراطيّة حديثة” تشابه النماذج التي توفّرها “الدول الديمقراطية العريقة” إضافة إلى تأكيدها على أمور تفصيليّة كـ “حماية حقوق الإنسان” و”الفصل بين السلطات” و”مسؤولية السلطة التنفيذية أمام البرلمان” و”الاعتراف بالمساواة الكاملة بين كلّ السوريين بغض النظر عن دياناتهم على أساس (المواطنة)” مع الاحتفاظ ببعض العبارات الإسلاميّة، كالدعوة إلى “أسلَمَة القانون تدريجيًّا”؛ وبالوقوف عند بنود هذه الوثيقة ومقارنتها بالبيان السابقِ فإنّنا ندرك أنّ تحوُّلاً عميقًا في فكر الجماعة وأدبيّاتها لَمْ يَطْرَأ؛ إذ إنّ معظم العناصر الليبراليّة التي احتواها مشروعهم السياسي حاضرة بقوَّةٍ في “بيان” 1980، أي في الوقت الذي واجه فيه “الإخوان” سلطوية النظام بالعنف المسلّح مع تجيير العداء المذهبي لمناهضة “الطائفة العلوية”. لقد أكّدت وثيقة بيان (1980) على ” الفصل بين السلطات” و”حرية الأحزاب السياسية” و”المساواة بين المواطنين”، الأمر الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ مشروع عام (2004) تأكيد معنويٌّ على أهداف الحركة الأساسية، و”طمأنة” -في الوقت ذاته- للمعارضة السورية التي أعلنت التحالف معها عام 2005، مع تنويه الفِكر إلى أنّ برنامج عام 1980 جاء في إطار أشرس الهجمات التي شنّها النظام السوري على الجماعة مسببةً بعلو مطالب التيار المتشدّد في الجماعة، إلا أنّ ذلك لم يغيّر من “ليبرالية” الجماعة ولا “تعاملها الفكري والسياسي” مع تلك الأوضاع؛ بل كان تعاملهم نابعًا “من الأصول” التي يعودون إليها.
يسرد “بيريه” -في هذا السياق- العديد من الشواهد التي تؤكّد على تجذّر الخطاب الليبرالي الديمقراطي في فكر الجماعة، كتعامل الجماعة مع نقاشات تشكيل دستور عام 1950؛ فقد أبدت -على سبيل المثال- مرونة واضحة في عدم الإصرار على ذكر “أن دين الدولة الإسلام” فعلى الرغم من تأكيدهم في مقترَح ذات المادّة على أنه “لن يكون هناك تمييز بين المواطنين في الدولة على أساسٍ من الدين” إلا أنهم تنازلوا عن ذلك مقابل ذكر أن “دين رئيس الدولة هو الإسلام” وأنّ “الفقه الإسلاميُّ المصدر الرئيس للتشريع” واصفين ذلك الدستور بأنه “دستور نموذجي للدول الإسلامية”. وهنا يبرز التساؤل الأهمّ: لمَ يشترك “الإخوان” الأوائل بالخصائص مع إسلاميي “ما بعد الإسلام السياسي” الحاليين؟

ينبغي للإجابة على ذلك النظر إلى عدّةِ أسباب جوهرية أسهمت في تجذّر هذه الرؤية الليبرالية لديهم -بحسب “بيريه” – أوّلها كونهم قوة برلمانية متواضعة في تاريخ البرلمان السوري بعد الاستقلال، وهذا -بطبيعة الحال- ليس سببًا تفسيريًّا كافيًا، أمّا ثانيها فكون البرلمان السوري رمزًا للمقاومة الوطنية ضد الفرنسيين، إضافة إلى ذلك فإنّ الإخوان كانوا يخشون قيام النظم العسكرية بعد تجارب الحكم العسكري على يد حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، فقد أضاف ترسُّخ الإيديولوجيات العلمانيّة المتعددة سببًا مهمًّا في ضعف تأثير الإخوان في الجيش مقارنة مع التيّار القوميّ كالناصريّة والبعثيّة، إضافةً إلى ذلك فقد حرصت الجماعة على جذب الطرف “المحافظ” من المجتمع البرجوازي، وهو ما يعدّ وقوفًا معه في صراع الفلّاحين وسلطة البرجوازية المدينية، وذلك كما يظهر بوضوح في شخصية “معروف الدواليبي” الذي كان مثقّفًا إسلاميًّا مقرَّبًا من الإخوان وعضوًا قياديًّا في حزب “الشعب” المدعوم من قبل أعيان حلب ووجهائها. علاوة على ما تقدّم فإنّ الموقع السياسي للجماعة -في البرلمان- تطلّب منهم إعطاء الأولويَّة لمقتضيات التصرف البرلماني وتحالفاته، ويظهر ذلك كما أسلفنا في قضية النقاش حول دين الدولة في دستور 1950، مفضّلين تجنب وقوع أزمة سياسيّة تعقبها نتائج انتخابية قد تكون غير مواتية لهم، وعلى نحو ذلك يمكن فهم محاولتهم تأييد الأيديولوجية الاشتراكية التي حظيت بالقبول لدى كثير من قواعدها الشابة داخل المدن الكبرى كحلب ودمشق، ومن ثمّ فإنّ هذه الأسباب -تُعَدُّ- بكلّها مرشدًا للفهم الأعمق لمرونة الإخوان السياسية “تأصيلًا وتنظيرًا وتطبيقًا”.

“النشطاء” و”العلماء” تحرير المفاهيم وعوامل الاختلاف:

يقدّم “بيريه” نقدَين لتنميط “التيّار الإسلامي” الأوّل: حول جدوى تقسيم التيار الإسلامين إلى “المتشددين” أو “المعتدلين”، أما الثاني: فيدور حول رفضه لجعل “التجانس” سببًا في التوافق بين أفراد التيار الإسلامي في عدة مسائل كالأسلمة، مؤكّدًا على أنّ قَبول معايير ظاهرة “ما بعد الإسلام السياسي” أو رفضها، ليسَ مميِّزًا خاصًّا لأحد مكوّنات التيار الإسلامي السوري، وإنّما هي خصائص سادت في مرحلة معيّنة سابقة.

يرى “بيريه” في إطار نقده لتقسيمات التيّار الإسلامي أولويّة وضعه ضمن صنفين: “العلماء” الذين يختصُّون في مجال الدعوة إلى سبل النجاة أو التقوى الذاتية بهدف الخلاص ودخول الجنة، أي تحقيق الهدف الأول من الدين في المقام الأوّل، مقابل الطرف “النشطاء والخبراء في العمل السياسي” فيكون الصنف الأوّل من جملة الحقل الديني، بينما ينتمي الصنف الثاني إلى الحقل السياسيّ، وعلى الرغم من أن هذين الصنفين (إسلاميّين) بمعنى إمكانية دعمهما إقامة نظامٍ إسلامي، إلا أنّ اختلاف وظائف كلٍّ منهما وتباين سلوكهما ينتهي إلى الاختلاف في مواقفهما التي تتعارض في غالب الأحيان حول القضايا المتعلّقة بمسألة الإصلاح السياسي. وللتأكيد على رؤيته هذه يحتجُّ “بيريه” بأن “العلماء” كانوا أكثر فاعليّةً في “أسلمة” المجتمع المحلّي خلال القرن العشرين أكثر من “الناشطين” سواء من خلال إنشاء الجمعيات الخيرية والمدارس الإسلامية وتعزيز الإشراف الديني على المجتمع وإنشاء شبكات غير رسمية مرتبطة بالمساجد وبعلماء متعددين بهدف استقطاب الشباب من الأوساط العلمانية والدينية على حدٍّ سواء.

بالمقابل فقد بدا دور “الإخوان” في الدعوة ناقصًا، ممّا يشي بنخبوية “الجماعة” مقابل مفاهيم “العلماء”، ونظرًا لتركيز العلماء على “الأسلمة المجتمعية” فقد استخدموا السياسة كأداة لدعم المطالب الدينية والأخلاقية، كالمطالبة بـ “حظر البدع، والدعارة، ودور السينما، ومعارض الصور، والملاهي” وذلك كما فعلت رابطة العلماء في العهد الليبرالي من الاستقلال، بيد أن هذا لا يعني تأخّر “الجماعة” عن الدعوة إلى “الأسلمة” والعمل لها، فقد دعوا لإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة في الوقت الذي أبدوا فيه المرونة اللازمة لإقرار دستور 1950، وهو ما رآه العلماء غير كافٍ في ذلك التاريخ وفي دستور 1970، حيث طالبوا في كليهما الإقرار بـ “إسلامية” الدولة، ونلحظ المسلك ذاته من كلا الطرفين في حقبة الضغوط الدولية التي تلَت اغتيال رفيق الحريري، فبينما كانت “الجماعة” تطالب -وهي في المنفى- بالحرّيّات والحقوق السياسية، طالبَ كبار “العلماء” بتعزيز “الأسلمة” بشكل واضح من خلال حظر نشاطات عدة مجال حقوق المرأة وتسهيل فتح المدارس الإسلاميّة وإعادة إحياء “رابطة العلماء” المحظورة منذ عام 1963.

أسباب الاختلاف توجّهات التعاطي في مسألة “الأسلمة” بين “العلماء” و”الناشطين”:

يجدر بنا التأكيد على أنّ هذا الاختلاف لا يتعلّق بـ “قِيَم النظام”؛ إذ يتّفق الصنفان من التيّار الإسلاميّ على أفضليّة “الحكومة المنتخبة” على ما عداها، وعلى الرغم من إقرار “د. محمد سعيد البوطي” بذلك في كتبه ومحاضراته مرارًا إلا أنه يبتعد عن التيار المقابل حين يصف المطالبة بالتحول الديمقراطي بأنها مؤامرة “تُستَخْدَم من طرف قوى الغرب الاستبدادي” “لغرض إفساد قِيم المجتمع” ومن ثمَّ فإن الاختلاف بين التيارين يتمثّل أساسًا في تباين “التقويمات” المتعلّقة بالديمقراطية زمانًا ومكانًا، ولم يكن من المستغرَب أن يتولّى “العلماء” في العشريّة الأخيرة جانب النظام مقابل مكاسب “قطاعيّة” تهدف إلى تعزيز إدارتهم في المجال الدينيّ وتقوية تأثيرهم فيه. بخلاف “الناشطين” الذين يطمحون لأن يكونوا نخبة سياسيّةً بديلة عن النظام السلطوي.
وبناء على هذه الخصائص يمكننا تفسير اختلاف سبل التعامل بين “الناشطين” و”العلماء” إذ يدفع “العلماء” نحو “الأسلمة” دون تحدّي بنية النظام السياسي ما لم يصبح معاديًا للدين علنًا، بينما يواجه “الناشطون” السياسيون المشكلة من جهة مختلفة، نظرًا للإقصاء الذي يمارسه النظام تجاه الإسلاميين “السياسيين” فإن ذلك يدفع بهم إلى تبنّي خيار أولوية التغيير البنيوي للنظام، أي معارضته بشكل كامل.

يدين “توماس” في تحليله هذا إلى المفكر الفرنسي “ميشال دوبري” الذي شرح فكرة “اضطراب الحدود بين قطاعات المجتمع” واصفًا انسحاب “النخب القطاعية” وقت الأزمات باتجاه الدفاع عن مصالحها على الرغم من انخراطها في مناقشة قضايا الشأن العام بأنّه خصيصة مهمة، ويمثّل “بيريه” لذلك بمواقف “العلماء” في سورية إبّان حملة القمع ضد “الجماعة” في الثمانينات حيث انقسمت مواقفهم بين “الانضواء” تحت راية النظام والمطالب بمكاسب “قطاعية” أو تفضيل بعضهم الالتحاق بالمنفى على إعلان الولاء له، وكذلك بما حدث إبّان الأزمة الحالية التي تعيشها سورية، فقد تكررت الحالة ذاتُها؛ إذ قدّم د. البوطي وجمع كبير من “العلماء” على سبيل المثال الولاء للنظام، فقدّم لهم بالمقابل فوائد “قطاعية” تتمثل بإنشاء فضائية إسلامية وإقامة معهد إسلامي للدراسات الجامعية وإغلاق بعض الملاهي الليلية، والتراجع عن إقالة المعلمات المنقّبات، بينما آثر آخرون رفض هذا الأسلوب وطالب بإيقاف القمع وأشاد بالمتظاهرين، وذلك كما فعل “شيخ القرّاء كريّم راجح”.

ينتقد “بيريه” “آصف بيات” ههنا بأنّ تفسيره لهذه المعادلة يقع على طرفي نقيض في المنعطف “ما بعد الإسلامويّ” الذي ينظّر له، إذ يصف “بيات” المطالَبة الخاصّة لكلّ فريق بناء على مبدأي الواجبات والحقوق، نظرًا لما يتمتع به كل طرف من الفريقين، كـ “العلماء” الذين سيطالبون بالواجبات المترتبة على عاتق الدولة، بينما سيطالب “الناشطون” بخيارات مختلفة عن العلماء، كالمطالبة بالحقوق المدنية، إذ يدفع هذا التفسير -بحسب “بيريه”- إلى تبسيط التيّار الإسلاميّ ضمن اختزالين:

أوّلهما: “التحقيب” أي وصف “الإسلام السياسي بأنه مرحلة سياسية في الحركة الإسلامية” وتبدأ من كذا إلى كذا، وثانيهما: تقديم “الحركة الإسلامية” كُلًّا متجانسًا من خلال فكرة تسييس الدين لدى الطرفين. ويرى “توماس” أن “الناشطين” و”العلماء” يهدفون -بطبيعة الحال- إلى أسلمة المجتمع والدولة، إلا أنّ “العلماء” يرون أسلمةَ المجتمع أوَّلاً نظرًا لكون “تنمية التقوى الفردية” غايةً في حدّ ذاتها، وهدفًا لا تقلُّ أهميته عن مسألة تطبيق الدولةِ الشريعةَ، والسبب في ذلك أن إدارة المجال الديني لا النشاط السياسي هو ما يعرّف هوية العلماء الاجتماعية التي يسعون إلى تحقيقها من خلال “وظيفتهم والمجال الذي يمارسون فيه عملهم” بينما يرى “الناشطون” “أسلمة الدولة” أولويّةً على المجتمع، والإصرار البالغ على مزيّة “الاشتراك” بين مفاهيم المجموعتين، سيزيد من اللَّبس ويحجب اختلافات عديدةٍ ين المجموعتين، ومن ثَمّ فإنّ قراءة “بيات” التي تشير إلى مركزية الحقوق والواجبات -على الرغم من أهميتها- لم تحدّد الشروط الواجبة لهذا الاختلاف ولا عوامل نهوضه وتوسُّعِه، وهنا يقترح “بيريه” مقولة “الدائرة القطاعية” التي يمثلها “العلماء” لبيان عوامل هذا الاختلاف بصورة أعمق.
آثار منهج “العلماء” في عمليّة “الإصلاح الدينيّ” في سوريا:
يقدّم “توماس” نتيجةً لقراءته الأطروحة الآتية: يُشتَرَطُ لظهور تيّارٍ إصلاحيٍّ قويٍّ ضعفُ مؤسسة “العلماء” إما نتيجةً للعلمنة أو لنموّ فاعلين إسلاميّين سياسيّين ينتجون قراءات تجديديّة بفعل المناخ الليبرالي الذي يتاح لهم -كما في تركيا مثلاً-.
من ثم -فإنّه- بناءً على منطق الخُلْفِ يُعَدُّ استمرار النظام التسلُّطيِّ في سورية سببًا في زيادةِ قوّةِ تيّار “العلماء” المحافظينَ وسببًا في خُفوتِ “الأصوات الإصلاحيّة” فيها. وقد أفاض في دراسة ذلك ضمن المحور الموسوم بـ “بين مطرقة الدولة وسندان العلماء: (إصلاحيّو سوريّا)”.

إن الدافع لتفضيل النظم التسلّطية التعاملَ مع “العلماء” المحافظين أو “القطاعيّين” -بعبارة أدقّ- عائدٌ إلى منهجهم في التعامل مع قضية “الأسلمة” ومن ثمّ فإن النظام السوري -كالأنظمة التسلّطية كلّها- يختار شركاءه بناء على درجة المصداقية التي يقتنع بها “العالِم” ومتانة ولائه لبنية النظام السياسي، وعليه يمكن عدُّ هذه النقطة أساسًا منطقيًّا في فهم التقارب الذي جرى بين د. البوطي والأسد الأب والابن على الرغم من الاختلافات الجوهرية في الإيديولوجية الفكرية لكلا الطرفين.

ولأنّ النظام السوري يحدد طرق تعامل “العلماء” مع السلطة، فإنه كذلك -بمنهجه هذا- يحدّد لـ “العلماء” كيفية التعامل مع الأفكار الإصلاحية؛ فيواجه الإصلاحيون -في حقيقة الأمر- عائقًا مزدوَجًا في طريق الإصلاح الديني، إذ إنّ مطالبتهم بالتغيير السياسي ستثير حفيظة النظام السلطوي، كما أنّ مطالبتهم بالإصلاح الديني المباشر سيثير غضب “المؤسسة الدينية” وعليهم -بالضرورة- التخلّي عن أحد هذين الخيارين، بهدف تأمين دعم الدولة والعلماء أو أحدهما.

لقد ساق “بيريه” لإثبات أطروحته هذه سردًا تأريخيًّا لوقائع محاولات الإصلاح وتعامل العلماء والسلطة معها، كمحاولة محمد شحرور في فهم القرآن دون النظر إلى النصوص الدينية الموضّحة بل من خلال تقدُّم معطيات العقل البشري، حيث يصفها “توماس” بأنّها أكثر المحاولات جذريّة من بين محاولات تجديد الإسلام في سوريّا، وقد حاربتها “مؤسسة العلماء” ويسوق أيضًا محاولة “محمد حبش” الذي اعتمد موضوع “المكانة الدينية لغير المسلمين” منطلقًا للإصلاح وذلك من خلال رفضه النظر إلى الإسلام طريقًا وحيدًا للخلاص، فأعدّ في ذات الإطار العديد من مبادرات الحوار مع الديانات والطوائف، مما أكسبه عداء “جماعة العلماء” لدرجة اتهامه بـ “الابتداع” من قِبَل البوطي ذاته، مما دفع إلى محاولة عزله، إلا أنه -بمعونة الأجهزة الأمنية- استطاع دخول البرلمان السوري نائبًا مستقلاً في عام 2003، مستثمرًا الظروف السياسية التي حدثت بعد ذلك في سبيل تقديم نفسه طرفًا إسلاميًّا مناصرًا للديمقراطية في الداخل وبديلاً عن الإخوان الإسلامي في حقل الإسلام السياسي، قبل إسكاته تدريجًا بعد عام 2007، وكذا الحال مع عدد من الناشطين الذين تتلمذوا على يد بعض العلماء الإصلاحيين في دمشق أمثال أبو الكرم السقّا كـ د. رضوان زيادة، ود. عبد الرحمن الحاج، الذين أنشؤوا بمشاركة أفراد آخرين “الملتقى الفكري للإبداع” الذي نشر عددًا من المقالات المهمة في “تفكيك مفاهيم الدولة والسلطة والنص وأسلمة المعرفة على ضوء مناهج اللسانيات الحديثة”، إلا أنّهما توجّها نحو معارضة النظام “إذ لا إصلاح ديني دون إصلاح سياسي” -بحسب زيادة-، وقد حاول د. عماد الدين الرشيد -المعجب بتجربة العدالة والتنمية التركي- التنظير للإصلاح السياسي “تحت حماية العلماء” فنال دعم “شيخ العلماء” أي د. محمد سعيد رمضان البوطي في دمشق، إلا أنه فصل من عمله في الجامعة -على الرغم من دعمه له- عام 2010 إضافة إلى أمثلة أخرى.

وبالخلاصة فإن الملاحظ للعيان ارتفاع رتبة العلماء كالبوطي في الوقت الذي كانت جهود الإصلاحيين تتعرض للهجوم من قبل السلطة السياسية أو المؤسسة “القطاعية” للعلماء ذاتها، ومن ثمّ لا يبدو غريبًا عدُّ وجود “العلماء” ركيزةً داعمةً في تثبيت النظام السوري وكونه أهمَّ من دعم التوجُّه الإصلاحي المنفتح على تيارات النقد والتجديد.

 

ختمٌ وإيجازٌ:

تتلخّص أطروحة “بيريه” النقدية كما أسلفت بمحاولة إضافة عناصر تحديدية أجلى من العناصر التي ارتآها “بيات” في تحديد الموصوفين بـ “ما بعد الإسلام السياسي” بشكل أدقّ، إلّا أنّه في الآن نفسه ارتأى خروج التيار الإسلامي السوري عن رؤية “بيات” لدواعٍ عديدة، منها تجذّر الخطاب الديمقراطيِّ لدى جماعة الإخوان المسلمين مقابلَ رفض منظومة “العلماء” هذا الخطاب ومخرَجاته، محدِّدًا في سبيل ذلك توصيفين -يراهما- دقيقين في التفريق بين تياري “الإسلاميين” في سورية، وذلك استنادًا على مبدأ “التوظيف” لمصلحة القطاع في حالة “العلماء” والتوجه نحو “المعارضة” في حالة “الناشطين” وبما أن العلماء يمتنعون عن المطالبة بالإصلاح السياسي نظرًا لطبيعتهم القطاعية لا الأيديولوجية فإنّ النظام التسلطي سيندفع لدعمهم ما أقرّوا بالولاء له، معتمدًا في الآن ذاته على تجيير جهودهم في كبت التوجُّهات الإصلاحيّة لدى المفكرين المجدّدين وإبطال فاعليّتها، وبالتالي سيبقى تأثير الخطاب “ما بعد الإسلاموي” -حال وجوده- طفيفًا ما لم يتحقق تغيُّرٌ معتَدٌّ به يمكِّن للانتقال نحو الديمقراطية، ممّا يدفع إلى القول: إنّ النجاح في جعل “الإسلام” ديمقراطيًّا في سوريا ليس متعلِّقًا بدعم “الما بعديين” من الإسلاميين، وإنّما في توفير سياقٍ يسمح بالانتشار “للنشطاء السياسيين من ذوي المنحى الحقوقي مقابل العلماء الذين يؤكّدون على مبدأ الواجبات في التعامل مع النظم السلطوية”.

الهوامش:

1- ينبغي الإشارة إلى أن توماس بيريه نشر هذه الدراسة في سلسلة “مراصد، كراسات علمية” التي تصدرها مكتبة الإسكندرية، وذلك في عددها الرابع عشر، بترجمة عومرية سلطاني، عام 2013، كما نشرتها دار “جداول” في ملف بحثي بعنوان “ما بعد الإسلاموية الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي” الذي أشرف على تحريره د. آصف بيات، وترجمه محمد العربي، عام2016، وقد اعتمدت النشرة الأولى في عرض هذه الدراسة.

 

الساعة 25

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق