بقلم: رضوان السيد
دخلت إسرائيل على الموضوع السوري مؤخرا من بابين: الإغارة على مواقع عسكرية في سوريا ما تزال تفاصيل أهدافها غامضة فيما بين مركز للأبحاث العسكرية وقافلة صواريخ متطورة إلى حزب الله، والإعلان من جهة أُخرى عن إجراءات على الحدود مع سوريا على مرحلتين: إقامة سور عازل يشبه ذاك الذي أقامته إسرائيل ضمن الضفة الغربية والقدس وعلى تخومهما، والقرار أخيرا بإقامة منطقة عازلة في الجولان السوري بعرض 15 كيلومترا للوقاية من التطورات المحتملة بعد سقوط الأسد ونظامه. أما إيران فقد أرسلت إلى سوريا سعيد جليلي مدير مجلس الأمن القومي، وقد بقي الرجل عدة أيام اجتمع خلالها بالأسد، وأعلن بعدها أنّ إسرائيل ستندم على ما قامت به؛ في حين قال مسؤولون إيرانيون آخرون إنّ الردَّ السوري على الهجوم الإسرائيلي سيكون حاسما، ويوشك أن يُدخل الكيان الصهيوني في حالة غيبوبة! وفي الوقت نفسِه اجتمع وزير الخارجية الإيراني صالحي في ميونيخ بمعاذ الخطيب رئيس الائتلاف للمعارضة والثورة، وقال صالحي بعدها إنّ الاجتماع كان ممتازا لأنّ الخطيب قبل التفاوض مع نظام الأسد بشروط!
ماذا يريد الإسرائيليون، وماذا يريد الإيرانيون، وما العلاقة بين التحركين؟ كلا الطرفين الإسرائيلي والإيراني يقف مع نظام الأسد، لكنهما يُعدّان في الوقت نفسِه لصَون مصالحهما إذا سقط النظام. فالإسرائيلي يتخذ إجراءات على الحدود للحماية والوقاية بعد أن ظلَّ ساكنا ومطمئنا منذ عام 1974 من دون سورٍ واقٍ ومن دون منطقة عازلة. هل كان مطمئنا إلى وجود المراقبين الدوليين، أم كان مطمئنا إلى أنّ حكم البعث هو السور الواقي؟ الأرجح هو الأمر الثاني، لأنّ المُراقبين الدوليين ما يزالون موجودين، وسيظلون هناك بعد سقوط النظام. أمّا الغارة الإسرائيلية على مراكز وتحركات عسكرية؛ فإنها تريد التنبيه إلى أنّ “مشكلة” إسرائيل لن تنحلَّ باتفاق الأميركيين والروس على حل في سوريا؛ بل إنها تريد حلاّ لمشكلة حزب الله، والسلاح الذي تكدَّس ويتكدسُ لديه.
وهكذا فإنّ إسرائيل افتقدت وتفتقد بقيام الثورة السورية إلى سورين عازلين وليس سورا واحدا: تريد ضمانا لبقاء الهدوء على الحدود بينها وبين سوريا، وتريد ضمانا أيضا إلى حدودها مع لبنان بسبب بقاء الطرف الآخر للتوازُن المتمثل في حزب الله، والذي ما نشط لشيء بعد حرب عام 2006؛ بل انصرف لإحكام السيطرة على الداخل اللبناني، مطمئنا إلى سطوة المحور الذي أقامه الإيرانيون بين العراق وسوريا ولبنان. فالأطراف العربية الثلاثة للمحور الإيراني، كما أمّنت منطقة نفوذٍ ممتدة لإيران من الأهواز وإلى شاطئ المتوسط، أمّنت لإسرائيل “عدم تحرُّشٍ” لهذه الجهة طوال قرابة 7 سنوات. وخلال ذلك انتقل خطُّ الاشتباك إلى غزة كما هو معروف، إلى أنّ تسلّمت مصر بعد الثورة المسؤولية عن التهدئة لهذه الناحية.
القلق الإسرائيلي المتصاعد إذن هو في أحد تعبيراته، قلقٌ من تزعْزُع المحور الإيراني الذي توصلت إسرائيل معه إلى حالة “ربط نزاع”. ومن هناك تأتي العلاقة بين التحركين الإسرائيلي والإيراني. فالإيرانيون أكثر قلقا بالطبع، لأنّ الذي تزعزع هو محورُهم ومركزُهُ سوريا ونظامُها على الخصوص، وإدراكا من إيران لأخطار التزعزع هذه، نشطت منذ قيام الثورة السورية لدعم النظام هناك بشتّى الوسائل المادية واللوجستية والعسكرية المباشرة. وما اكتفت بالدعم المباشر، بل طلبت من المالكي وحزب الله القيام بالشيء نفسِه.
فإلى جانب التسهيلات المالية واللوجستية والعتاد، هناك عدة آلافٍ من المقاتلين، لجهة نهر الفرات، ولجهة دمشق، ولجهة خط حمص – القُصير – الهرمل. بيد أنّ الغارة على المواقع السورية، أثارت لدى الإيرانيين قلقا آخر كبيرا، إذ بذلك تعرضت هيبة المحور الذي تدعي إيران أنها أقامته في وجه إسرائيل، لضربة قوية تستدعي ردا من نوعٍ ما، أو لا تعود هناك فائدة (دعائية على الأقلّ) من مزاعم الممانعة والمقاومة. ومن أجل “الردّ” المحتمل جاء جليلي إلى سوريا. لكنّ “تقدير الموقف” مع الأسد وضباطه، أفضى فيما يبدو إلى أنه لا فائدة تُرجى من تظاهُر النظام القيام بالردّ المُزلْزِل. فهل يقوم حزب الله؟
لقد نقضت إسرائيل شروط الهدنة القائمة بين المحور وبينها بالغارة؛ في حين كان المحور وفيا لالتزاماته وتعهداته بعد الحرب عام 2006. والتي أنجزها الأميركيون مع إيران في سياق انسحابهم من العراق. والاتفاق كان ألا يتعرض المحور للقوات الأميركية أثناء الانسحاب، ولا يتحرش بإسرائيل بعد الانسحاب. والذي حدث أن إسرائيل هي التي تحرشت، بسبب انخفاض منسوب الهيبة، ولأنها تريد ضماناتٍ ما عادت إيران ولا الولايات المتحدة تستطيع تأمينها لها بعد قيام الثورة السورية. بيد أنّ ترميم ما تصدّع اعتمادا على القدرات الهجومية لحزب الله، يُعتبر فخا أيضا: فما الذي يضمن ألا يتحول التعرض الصاروخي لإسرائيل إلى فرصة لها لـ”حلّ” مشكلة صواريخ الحزب من الأساس في حربٍ شاملة أو محدودة؟! ولذا فقد جرى صرف النظر حاليا فيما يبدو عن القيام بأي عملٍ عسكري، انتظارا، ربما، لطلْقة أخيرة يطلقها نظام الممانعة في لحظة الانهيار!
على أنّ الضيق الإيراني لا ينحصر بمشكلته الحالية مع تَداعي النظام السوري. فالإيراني مُقْبلٌ على مفاوضاتٍ مصيرية على النووي مع الأميركيين (الذين قدّموا عرضا أخيرا في لقاء بايدن وصالحي بميونيخ). وهم مترددون في ماذا يفعلون؟ هناك هموم الحصار الخانق، وهموم ضعف محور الممانعة، والمزايدات الداخلية التي تتطلبها انتخابات الرئاسة في يونيو (حزيران) المقبل. وليس من دون دلالة العرض شبه العَلَني الذي يقدّمونه للأميركيين بشأن نفوذهم في المناطق الشيعية بأفغانستان، وإمكانيات التعاوُن ما دام الأميركيون يريدون الانسحاب من هناك عام 2014. كما تعاونوا معهم عند دخولهم إلى أفغانستان عام 2001 – 2002. وشاركوهم عند دخولهم إلى العراق عام 2003. وخلفوهم عند خروجهم عام 2011.
إنّ الذين ينظرون إلى خطوة معاذ الخطيب باعتبارها تراجُعا عن مواقف سابقة، ينسَون أنها خطوة تستند إلى تعديلٍ في الموازين على الأرض. فالمعارضة الآن سلطة على أجزاء كبيرة من الأرض السورية. وصحيحٌ أنّ الأشهر الثلاثة الأخيرة ما شهدت تقدما بارزا للمعارضة العسكرية، وشهدت في المقابل عنفا هائلا من جانب قوات النظام؛ بيد أنّ الروس والإيرانيين (والصينيين الذين مضى إليهم المقداد) يعرفون يقينا (فهم على الأرض أيضا) أنه لا حياة باقية للنظام الذي يدعمونه من قُرابة السنتين من عمر الثورة – ولذا فإنهم (وكلٌّ على انفراد) يستقبلون عرض مُعاذ الخطيب، ويحاولون البناء عليه والحساب لما بعد الأسد: وإلاّ فكيف صار الإرهابيون والعملاء فجأة شركاء مقبولين في حل تفاوضي؟!
إنها “شراكة” قامت منذ مطالع القرن الحادي والعشرين برعاية الأميركيين بين الإسرائيليين والإيرانيين والأتراك على “ملء الفراغ” في منطقة الهلال الخصيب، وكان موضوعها العراق وسوريا ولبنان. وقد خرج من الشراكة – لكونها ما عادت مُجزية – كلٌّ من الأتراك والإسرائيليين في اتجاهاتٍ مختلفة. ودخل إلى الساحة الروس (بحكم موقعهم في النظام الدولي)، والعرب أو بعضهم (بسبب دعمهم للثورة السورية، وتصديهم للتدخل الإيراني في الشؤون العربية). لقد بدأ الحراك الاستراتيجي العربي المعاصر بالصراع على سوريا – بحسب تعبير باتريك سيل. وقد جرت تصفيته بفصل سوريا عن مصر، ثم صرفها للصراع مع العراق، فإلى إلحاقها بإيران قبل أكثر من عقدين. وتكتمل الحركة العربية الجديدة باستعادة سوريا إلى ذاتها، وإلى أمتها العربية.