سبع نقاط هي مدخل لتقييم فوائد وتكاليف ومخاطر النهج غير التقليدي لإدارة ترامب بمجال التجارة الدولية.
بقلم د. محمد العريان
دفع الصين بعيداً جداً وبسرعة كبيرة من شأنه أن يهدد ليس فقط بحرب تجارية شاملة، ولكن بزيادة الضغوط الجيوسياسية والاضطرابات المالية كأن تلجأ الصين لاستخدام سلاح سندات الخزانة الأمريكية في زعزعة سوق الدولار.
لا يزال تأثير الرسوم الجمركية المتصاعدة التي تفرضها كل من واشنطن وبكين، منحصراً في جزء صغير نسبياً من اقتصادي البلدين. ولا تزال نقطة التوافق الرئيسية بين المراقبين والمحللين هي ألا تتطور المناوشات إلى حرب تشكل تهديداً للنمو الاقتصادي ولأسواق الأسهم، وأن تسفر عن اتفاقيات تجارية أكثر عدالة بين دول العالم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشكل أي تصعيد، كإعلان ترامب يوم 10 يوليو/تموز عن عزم إدارته فرض رسوم استيراد على 200 مليار دولار إضافية من المنتجات الصينية، مدخلاُ لمضاعفة مخاطر الهبوط في الأسواق، إما عن قصد أو عن غير قصد والانتقال من المناوشات إلى مرحلة الدخول في حرب تجارية شاملة من شأنها أن تلحق ضرراً بالغاً بأرباح الشركات ومعدلات النمو عموماً.
وهناك سيناريو ثالث يتعلق بالتجارة الدولية لم يستحوذ على انتباه المراقبين حتى الآن وهو أن تتعرض الأسواق لنوبة نشاط تصاعدي أو تراجعي، تتجاوز الجراحة السطحية للنظام المالي عبر إحداث تغييرات في المشهد العام للاقتصاد العالمي بما يخدم الاقتصاد الأمريكي سواء بالشروط النسبية أو المطلقة.
والتحدي الأكبر اليوم هو في وضع توقعات ثابتة ترجح واحداً من الاحتمالات الثلاثة. وتعتمد النتيجة على عوامل تتجاوز الاقتصاد والتمويل، وتلعب السياسة المحلية فيها دوراً مهماً، وتزيد بيئة الاستقطاب الحالية من تعقيد التوفيق بين التوقعات وبين إعادة إحياء التنسيق بين السياسات العالمية.
وهذه النقاط السبع هي محور الرؤى والأفكار التي تستند إليها قواعد اللعبة في عملية وضع التوقعات:
أولاً: قواعد اللعبة تعاونية المنشأ تمارس بلا تعاون. فإدارة ترامب تسلك نهجاً تخريبياً في التجارة والعديد من المجالات الأخرى، من خلال إحداث البلبلة كوسيلة لإصلاح ما تعتبره واقعاً غير متماثل يقوض نزاهة النظام ويضر بمصالح الولايات المتحدة. وهي تعتمد تكتيكات أحادية الجانب تجمع بين فرض التعرفة الجمركية عملياً وبين التهديد بالتصعيد، بدلاً من الاستمرار في الاعتماد على النظام المستند إلى قواعد عززت أداء النظام الاقتصادي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
ثانياً: بالشروط النظرية لقواعد اللعبة لم تقدم واشنطن بادرة تعاون في لعبة التجارة الدولية القائمة أصلاً على «التعاون». وهذا يثير قلق خبراء الاقتصاد من الآثار المترتبة على انعزالية الدول وتفكك النظام ككل.
ثالثاً: تميل الحروب التجارية إلى تعزيز التباطؤ تضخمي المنشأ، وعرقلة النمو الاقتصادي وزيادة التكاليف والأسعار. وتؤدي الصراعات إلى تعقيد إدارة السياسات المحلية وزيادة خطر عدم الاستقرار المالي. كما أنها تتسبب في إحداث تصدعات خطيرة في البنية الاقتصادية والمالية الدولية، مع عواقب يمكن أن تتجاوز حدود الاقتصاد والتمويل.
رابعاً: بالنظر إلى ما سبق، فإن السؤال الرئيسي اليوم هو ما إذا كانت الجولة الحالية من التوترات التجارية المتصاعدة هي مجرد وسيلة لتحقيق هدف أفضل وهو حرية التجارة أو أنها غاية في حد ذاتها. وحتى الآن تميل الأسواق بدرجة أعلى بكثير إلى الاحتمال الأول، وهذا يعكس إيجابية محمودة، على الرغم من أن كل تصعيد في حرب التعرفة المتبادلة يضعف الثقة في ذلك الاختيار.
خامساً: لا يزال احتمال اللجوء إلى مزيد من التصعيد هو النتيجة الأرجح في الوقت الراهن. ولكي تكون التوترات التجارية وسيلة لبلوغ هدف أفضل، يجب أن تتغير سلوكيات كل دولة على حدة بطريقة واضحة ومستدامة وقابلة للقياس. وينطبق هذا بشكل خاص على نهج الصين تجاه الملكية الفكرية وفتح الأسواق أمام الأجانب ومتطلبات إنشاء المشاريع المشتركة، والتي تعد مصدراً للجدل طويل الأمد مع الولايات المتحدة ومع البلدان الأخرى.
وما لم تظهر مؤشرات على تغيير دائم، فإن الاستراتيجية الأمريكية الأكثر احتمالاً ستكون زيادة الضغط على الصين، رغم أن ذلك يحمل مخاطر كبيرة للجميع. وتهدف واشنطن إلى إزالة أي شك حول تصميم الإدارة والتزامها بالدفع نحو التغيير، بغض النظر عن التكاليف محلياً. لكن يمكن أن ينتهي بها الأمر إلى دفع الصين بعيداً جداً وبسرعة كبيرة. وهذا من شأنه أن يهدد ليس فقط بحرب تجارية شاملة، ولكن بزيادة الضغوط الجيوسياسية والاضطرابات المالية كأن تلجأ الصين لاستخدام سلاح سندات الخزانة الأمريكية في زعزعة سوق الدولار.
سادساً: اللعبة غير متوازنة بطبيعتها. تمارس الولايات المتحدة، سواء بالمصادفة أو عن سبق تصميم، لعبة إدارة الظهر للشركاء مستندة إلى حظوظها الجيدة نسبياً في الفوز. فالتوترات التجارية أقل ضرراً على اقتصادها مقارنة مع الصين التي لا يزال نموذج نموها يعتمد إلى حد كبير على الأسواق الخارجية. وتبدو آثار هذه الميزة النسبية واضحة في أداء أسواق الأسهم وأسواق العملات في البلدين. وعلى الرغم من أن هذه الميزة لا تشكل ضماناً للحماية من الأضرار، إلا أنها تمنح الولايات المتحدة قدرات لعب أكبر.
سابعاً: يشبه الوضع الراهن ما حصل في فترة الثمانينات عندما بدأ الرئيس رونالد ريجان سباق إنفاق عسكري مع الاتحاد السوفييتي وكان من المفترض أن تكسب الولايات المتحدة الرهان، وإن كان بتكاليف ومخاطر كبيرة. مثل هذه المقاربة ستغري إدارة ترامب لممارسة ضغوط أشد عندما تحوّل اهتمامها إلى تحديث ترتيبات التجارة الحالية مع الدول الأخرى، بما في ذلك بعض أقرب حلفائها.
ويرجح أن توافق الصين في النهاية على بعض طلبات الولايات المتحدة لأن اللعبة غير متوازنة. وستكون الاستراتيجية الصينية الأقل تكلفة بمرور الوقت هي السعي للعودة إلى النهج التعاوني في التجارة مع دول العالم، على الرغم من أن بكين تحقق مكاسب من خلال ترتيب اتفاقات التجارة الإقليمية. ويصبح ذلك ممكناً فقط في حال تلبية بعض طلبات الولايات المتحدة. ورغم أن الخيار الأول ليس الأفضل للصين، لكنه أفضل بكثير من حرب تجارية شاملة.
وتزعزع الاتهامات والاتهامات المضادة الثقة بين الأطراف في الوقت الذي تشكل استعادة الثقة بين الصين والولايات المتحدة عاملاً أساسياً لإعادة وضع قواعد اللعبة على المدى البعيد. ولا شك في أن ذلك يتطلب عقد لقاءات مغلقة، تنحي جانباً الاتهامات التي يفرضها كل طرف على الآخر حالياً، والتركيز على خطوات فورية لتعزيز الثقة، فضلاً عن إطار لحل سوء الفهم والتصورات الخاطئة التي يحتمل أن تسيطر.
وكلما اتسمت هذه الاجتماعات بالجدية، انخفضت مخاطر تحول اللعبة الحالية إلى حرب تجارية عالمية باهظة التكاليف. والوصول إلى تلك النقطة بشكل أسرع لن يكون صعباً من خلال بناء التحالفات ذلك أن شكاوى أمريكا الحقيقية ضد الصين تشاركها فيها دول أخرى، وسيكون من مصلحة الولايات المتحدة بناء التحالفات في وقت مبكر.
ورغم أن التحالفات يمكن أن تعقد المفاوضات الثنائية التي ترغب الولايات المتحدة في مواصلتها مع بعض الدول، فإنها ستساعد على تسريع نجاح سعيها تجاه القضية الأكبر، أي الصين، وتقليل مخاطر التبعثر الاقتصادي العالمي المكلِّف.
وبقي أن نشير إلى أن التنظير سهل لكن التنفيذ صعب. وتطبيق مثل هذه الخطوات المقترحة لن يكون سهلاً في بيئة الثقة المنخفضة، سواء على صعيد التركيبة السياسة الداخلية أو بين الدول.
ومن الضروري تفهم ردود أفعال الدول الأخرى، بالإضافة إلى الانفتاح على تصحيح المسار حيث إن عدم فهم قواعد اللعبة لا يجدي لتحقيق التقدم. وعلى صعيد الجبهة الداخلية، فإن اتخاذ القرار الصائب في البيت الأبيض وفي التوقيت المناسب أمر أساسي لضمان القبول المطلوب من قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي والكونغرس.
هذه النقاط السبع هي المدخل لتقييم فوائد وتكاليف ومخاطر النهج غير التقليدي لإدارة ترامب في مجال التجارة الدولية.
وهي تتجاوز المبررات التي تستند إليها رؤية الأسواق التي مفادها أن المناوشات التجارية يجب ألا يكون لها تأثير تراجعي دائم في الأسهم وفي الاقتصاد عموماً، وهي في نهاية المطاف ستسفر عن تحسين شروط التبادل التجاري الحر، مع أثر جانبي يصب في صالح الولايات المتحدة بحكم موقعها في قيادة الاقتصاد العالمي، وترميم النظام العالمي الذي تحملت واشنطن عبء قيادته لسنوات طويلة.
* د. محمد العريان خبير دولي، كبير الاقتصاديين بمجموعة “أليانز”.
المصدر: “الخليج” الإماراتية
كلمات مفتاحية: الولايات المتحدة، استراتيجية ترامب التجارية، قواعد اللعبة العالمية، الصين، الاتحاد الأوروبي، حرب تجارية شاملة، ضغوط جيوسياسية، اضطرابات مالية، سلاح سندات الخزانة، مخاطر هبوط الأسواق،