بقلم: صابر كل عنبري
الاقتصاد ليس كالسياسة التي تدغدغ مشاعر شريحة خاصة في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، رغم أن الجميع بلا استثناء يتأثر بها وبتداعياتها سلبا أو إيجابا، لكن الاقتصاد كونه يمس
حياة المواطنين كافة بدرجات متفاوتة، يحظى باهتمام الجميع، فقيرا، أو غنيا، أميا أو متعلما، بدويا أو متحضرا.
إيران هي ثاني بلدان المنطقة بعد مصر من حيث عدد السكان، حيث وصل إلى قرابة 80 مليون نسمة في آخر عملية تعداد سكاني جرت العام الماضي، اليوم يمثل الاقتصاد الشغل الشاغل لهؤلاء الإيرانيين جميعا، حاكمين أو محكومين، يعتبره الطيفان الأولوية الداخلية القصوى في الوقت الراهن، وهذا ما ظهر في تسمية عام 1395 الماضي و1396 الجديد الإيرانيين بمسميات اقتصادية، لها دلالات واضحة، عنوانها الأساسي أن الوضع الاقتصادي ليس على ما يرام، حيث سمّا قائد الثورة العام الماضي (1395) بعام “الاقتصاد المقاوم، المبادرة والعمل”، والعام الجديد (1396) الذي لم يمض عليه سوى أيام معدودة، بعام “الاقتصاد المقاوم، الإنتاج وخلق فرص العمل”.
الملاحظ في التسميمات وجود مصطلح “الاقتصاد المقاوم” الذي دخل القاموس الاقتصادي الإيراني بعد طرحه من قبل قائد الثورة الإسلامية الإيرانية في خطاب له في أغسطس 2012 في مواجهة الحرب الاقتصادية على إيران ووصول العقوبات إلى ذروتها بعد حظر نفطها، معرفا نظرية الاقتصاد المقاوم بأنها نمط ملهم من النظام الاقتصادي الإسلامي.
ثم بعد عامين طرح عشرة ركائز لبرنامج الاقتصاد المقاوم وخطوطه العريضة، مطالبا حكومة الرئيس روحاني الالتزام بها وتطبيقها.
رغم أن هذه النظرية طرحت لتجاوز الحالة الطارئة التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية، إلا أنها تصلح أيضا في حالات عادية، لبناء اقتصاد قوي متين لا يتضرر كثيرا في مواجهة الأزمات والمخاطر الخارجية.
إجمالا، الاقتصاد المقاوم يعني تقويم الاقتصاد بأدوات محلية وعدم ربطه بما وراء الحدود قدر المستطاع، من خلال دعم الإنتاجات الداخلية، ومنع تجارة التهريب المقدرة 15 إلى 20 مليار دولار سنويا، وكذلك تقليل الاستيراد ولاسيما منع السلع التي لها بدائل داخلية، حيث قال المرشد الأعلى للثورة خلال محاضرة له في عطل عيد النوروز في مدينة مشهد إن استيراد المنتجات التي لها بديل إيراني يجب أن يعتبر حراما دينيا وقانونيا.
لكن ما يمكن أن يبطل مفعول هذه النظرية، أنها دخلت ضمن المناكفات في البازار السياسي والتجاذبات بين الأصوليين والإصلاحيين والاعتداليين، حيث رغم تشكيل الحكومة الإيرانية لجنة خاصة لمتابعة برنامج الاقتصاد المقاوم تنفيذا لتوصيات القائد، وتأكيداتها المتكررة حول العمل على تطبيق هذا البرنامج، إلا أنها متهمة اليوم من قبل المعسكر الأصولي بالحركة في اتجاه معاكس، حيث طالب زعماء أصوليون، الرئيس روحاني بتقديم الاعتذار لعدم استطاعته تطبيق الاقتصاد المقاوم، ما استدعى ردا من روحاني قائلا: أن حكومته منتصرة في تطبيق الاقتصاد المقاوم.
ستبرز أهمية الاقتصاد المقاوم خلال الفترة المقبلة حال نفذ الرئيس الأمريكي الجديد تهديداته حيال طهران سواء ألغى الاتفاق النووي أو حاول مواصلة الحرب الاقتصادية على إيران من خلال فرض عقوبات أخرى وخلق حالة “اللايقين” التي لا شك أنها تحول دون تدفق الاستثمارات الأجنبية في البلد.
اليوم لا يوجد توافق بين مكونات كل من الطيفين (الحاكم بأطرافه المختلفة والمحكوم بشرائحه المختلفة) في تقييم واحد للوضع الاقتصادي والمعيشي القائم، حيث ثمة وجهات نظر مختلفة حول ذلك، فالحكومة وأنصارها يرونه متعافيا بعد سنوات كساد وعجاف في عهد الرئيس أحمدي نجاد، وخصومها السياسيين الحاكمين أو المحكومين المقربين لأطراف حاكمة، على قناعة أن الوقع الاقتصادي ليس كما تقول الحكومة، وإنما له إيقاع تراجعي وليس تقدميا.
كما أن الشريحة المحكومة العادية غير المنتمية لهذا التيار أو ذاك، لديها قراءة بعيدة عن الحسابات السياسية، تقترب إلى الحيادية أكثر، فهي لا تشعر اليوم بتحسن ملحوظ في واقعها المعيشي، لكن في الوقت نفسه هذه الشريحة وخاصة المتحضرة منها، تعرف أنه رغم ذلك، الوضع خرج من الطور التراجعي السلبي، أو ما يسمى بالركود التضخمي (stagflation)، وأن الأسعار لم تعد ترتفع بين ليلة وضحاها.
المشكلة الأساسية التي يعاني منها الشباب الإيراني اليوم هي البطالة المستشرية وانعدام فرص العمل بسبب عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من خلق هذه الفرص لأسباب عديدة أبرزها العقوبات المفروضة على البلد والسياسات الاقتصادية الخاطئة، وذلك عكس الرؤية العشرينية الممتدة من (2005ـ2025) والتي بموجبها يتعين على الحكومات إيجاد 600 ألف فرص عمل سنويا، هذا ما لم يتحقق، فعلى سبيل المثال في عهد الرئيس أحمدي نجاد بولايتيه (8 سنوات) تم إيجاد 600 فرصة عمل حسب قول مسؤولين في حكومة الرئيس روحاني، بينما كان من المفروض إنشاء 4 ملايين و800 فرصة عمل.
بالمجمل عموم الشعب الإيراني كان يتوقع أن تحدث انفراجة كبيرة في اقتصاد البلاد بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية 1+5 ومرور عام على تنفيذه، لكن ما حصل على الأرض كان عكس هذا التوقع، ولعل السبب الرئيس في رفع سقف التوقعات، يعود إلى مبالغة الحكومة ورئيسها في المكاسب المتوقعة من هذا الاتفاق اقتصاديا، وخلق هذا الانطباع لدى الشارع أن المشاكل الاقتصادية كلها تنتهي فور التوصل للاتفاق.
هذا ما لم يحدث على أرض الواقع لسببين، الأول المماطلة الأمريكية في رفع العقوبات على إيران وتحرير الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، وعرقلة التعاملات المصرفية الإيرانية مع العالم الخارجي، مما يشكل عائقا كبيرا أمام الاستثمارات الأجنبية، ولا تزال البنوك العالمية ترفض تمويل استثمارات خارجية كبيرة في ايران بسبب حالة عدم اليقين بشأن العقوبات الأمريكية المستمرة، والثاني، انخفاض كبير لأسعار النفط بالتزامن مع تطبيق الاتفاق النووي.
الواقع الاقتصادي بلغة الأرقام الرسمية
اذا أردنا الحديث بلغة الأرقام والإحصائيات، فقد أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال حديثه بمناسبة حلول السنة الإيرانية الجديدة “نوروز” (20 آذار) أن حكومته حققت نموا اقتصاديا غير مسبوق خلال السنوات الحادية عشر الأخيرة يُقدر 8 بالمائة في العام الإيراني المنصرم حسب قوله.
وصرّح روحاني أن إنجازات حكومته خلال العام الماضي في احتواء التضخم، والنمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل لا مثيل لها خلال 25 عاما مضى.
ويؤكد “مركز إيران للإحصاء” ذلك في تقرير نشره في آذار 2021، حيث قال أن نسبة النمو الاقتصادي مع احتساب النفط، وصلت في الشهور التسعة الأولى للعام 1395 الإيراني (آذار 2016 إلى آذار 2017) إلى 8.9 بالمائة، ودون احتساب النفط وصلت إلى 6.4 بالمائة.
كما أضاف المركز أن نسبة البطالة في البلد وصلت إلى 12.4 بالمئة، التي تشهد ارتفاعا مقارنة بالعام الماضي حيث كانت 11 بالمئة.
ومن جهة أخرى، نشر المصرف الوطني المركزي تقريرا اقتصاديا، قال فيه إن النمو الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي خلال فصل الخريف الماضي وصل إلى 15.7 بالمائة مع احتساب النفط، ودونه كان 4.6 بالمائة. كما أن التقرير أكد أن معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي خلال الشهور الثلاث الأولى للسنة الإيرانية (مارس وأبريل وحزيران) كان 11.6 بالمائة مع احتساب النفط و1.9 بالمئة دون ذلك.
وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، بلغ إجمالي الناتج المحلي في عام 2016 حوالي 412.304 مليار دولار بينما كان عام 2015 حوالي 393.7 مليار دولار.
وفيما يتعلق بنسبة التضخم، أعلنت الحكومة أنها لأول مرة منذ قرابة ثلاثة عقود انخفضت إلى أقل من 10 بالمائة، بينما كانت في آخر عهد حكومة الرئيس أحمدي نجاد قرابة 40 بالمائة.
سياسة روحاني الاقتصادية
الرئيس روحاني حين وصوله للسلطة، أعلن إنه استلم الخزانة من سلفه فارغة، ولمواجهة هذا الوضع وإبطال التضخم وتخفيضه وتحقيق استقرار اقتصادي في البلد، اتبع السياسة النقدية الانكماشية (Contractionary Monetary Policy)، وبناء عليها قامت الحكومة بتخفيض المعروض النقدي، والحد من القروض لتحقيق جملة أهداف منها، تماسك الأسعار والسيطرة على التضخم الذي كان قرابة 40 بالمائة في آخر أيام حكومة الرئيس أحمدي نجاد، وكذلك استقرار سعر صرف العملة الوطنية.
السياسة النقدية الانكماشية رغم جوانبها الإيجابية مثل الحد من التضخم وتخفيضه، وإيجاد حالة اقتصادية شبه مستقرة، لها أيضا جوانب سلبية، حيث أن تخفيض المعروض النقدي يقلل من النشاط الاقتصادي ولا يخدم عملية الإنتاج، لذلك هذه السياسة لا تحل مشكلة البطالة التي ارتفعت خلال العام الإيراني الماضي مقارنة بالعام الذي سبقه.
بشكل عام، يمكننا القول أن الرئيس روحاني نجح خلال الأعوام الأربع الماضية في إيجاد استقرار اقتصادي من خلال إيقاف التدهور الخطير الذي وصل إلى حالة “الركود التضخمي” عبر السيطرة على التضخم وتماسك الأسعار إلى حد ما، لكن مع ذلك نواحي الاقتصاد الأخرى ظلت في حالة راكدة.
الهدف الأساسي لحكومة روحاني في اتباع السياسة النقدية الانكماشية هو تحقيق استقرار اقتصادي، وفي حال تحقق ذلك تنتقل إلى السياسة النقدية التوسعية (Expansionary Monetary Policy) لتحريك عجلة الإنتاج ومواجهة البطالة، مع ذلك، لا يمكن للسياسة النقدية أيا كان نوعها أن تحقق النجاح المطلوب ما لم يتم مواجهة جملة تحديات كبيرة بنجاح، هي: إصلاح النظام المصرفي، ومواجهة الفساد، وتجارة التهريب، ودعم خصخصة حقيقية، وتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على عوائد النفط، والحد من سيطرة الحكومة على الاقتصاد.
الاقتصاد والانتخابات الرئاسية القادمة
بينما تحاول حكومة الرئيس روحاني المنافحة عن سجلها الاقتصادي والبلد مقبل على الانتخابات الثانية عشر للرئاسية، يسعى خصومها توظيف الوضع الاقتصادي المتردي في البلد في هذه الانتخابات، وتحويل ذلك إلى موطن ضعف كبير لروحاني لاستمالة أصوات المواطنين.
وفي هذا السياق، قد ينجح خصوم الرئيس روحاني في التأثير على قناعات المواطنين بسبب عدم خروج الاقتصاد من حالة الركود، وكذلك عدم شعور المواطنين بتحسن وضعهم المعيشي وارتفاع نسبة البطالة ومراوحة عجلة الإنتاج مكانها.
هذا التأثير سيبرز أكثر في الأرياف والمحافظات الفقيرة، لكن في المحافظات والمدن الكبرى يقل هذا التأثير إلى حد كبير، لأن الناس في هذه المناطق لايزالون يتأملون خيرا من سياسة روحاني المنفتحة تجاه الغرب ولديهم قلق من أن البديل قد يعود بهم إلى سياسة المواجهة المفتوحة والعقوبات من جديد.
كما أن بعض المرشحين المحتملين للاستحقاق الرئاسي القادم يحاولون من اليوم استمالة العقول الاقتصادية للمواطنين عبر وعود اقتصادية مثل زيادة الدعم الحكومي النقدي الشهري الذي يُقدم لغالبية الإيرانيين ويُقدر حالياً بحوالي 12 دولارا لكل فرد.
الختام
خلاصة القول أن الاقتصاد الإيراني رغم تعافيه جزئيا وتحقيق استقرار نسبي بفضل رفع العقوبات عن قطاع النفط والنمو الذي يشهده هذا القطاع، وكذلك اتباع سياسات اقتصادية من قبل حكومة الرئيس روحاني، إلا أنه لايزال يعاني من حالة الركود ولم يتعاف كليا، وهذا ما أكد عليه قائد الثورة آية الله الخامنئي خلال كلمته في أعياد النوروز، حيث قال انه رغم الإنجازات المحققة إلا أن ما حصل ليس ما نتوقعه والشعب الإيراني، كما أنه أكد أيضا أن الإحصائيات الرسمية لا تظهر أن الأوضاع تتجه نحو حل المشاكل الاقتصادية في إشارة غير مباشرة إلى الإحصائيات التي أعلنت عنها الحكومة.
تحريك عجلة الاقتصاد الإيراني وإخراجه مما فيه يتوقف على جملة عوامل داخلية وخارجية، فداخليا فوز الرئيس روحاني بولاية ثانية من شأنه تثبيت الاستقرار الاقتصادي واستكمال المسار التصحيحي للاقتصاد، وكذلك خارجيا من شأن استمرار الاتفاق النووي وعدم تعرضه لجلطة بسبب تهديدات ترامب، رفع القيود على التعاملات المصرفية، مما تخفض تكلفة التعاملات الدولية وتخلق تدفقات استثمارية أجنبية كبيرة، وزيادة إنتاج النفط والغاز، مما يمكن أن يحقق نموا حقيقا في كافة القطاعات الاقتصادية، يشعر به المواطن الإيراني خلال الأعوام القادمة. لاسيما أن إيران تمتلك ثروات طبيعية هائلة، حيث تحتل المركز الثاني في العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي والمركز الرابع في احتياطيات النفط الخام الذي يعتمد علي عوائده الاقتصاد الإيراني بشكل عام رغم محاولات حكومية تقليل ذلك من خلال الضرائب وترشيد أسعار السلع الأساسية والخدمات.
وفي المقابل، إن لم تنجح الحكومة في تنويع مصادر الدخل، فإن عادت العقوبات على قطاع النفط لاحقا، على الأغلب ستذهب الإنجازات التي حققتها الحكومة هدرا، بالتالي التحدي الأساسي الذي تواجهه طهران هو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على عوائد النفط، فإن تمكنت الحكومة من تجاوز هذا التحدي، فلا يمكن للعقوبات الدولية مستقبلا أن تتسبب في تدهور الاقتصاد الإيراني كما في السابق، وهذا جوهر أهداف نظرية الاقتصاد المقاوم.
عموما، كما يقول ماركس “القوي اقتصاديا قوي سياسيا”، فمن هذا المنطلق تعرف إيران أنها لكي تحافظ على التماسك الداخلي و أن تبقى قوة إقليمية مؤثرة لابد أن تكون قوية اقتصاديا.
(هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع)