تصطنع السلطويات عبر ممارسة التعقب والقمع والتهديد بهما مواطنا خائفا يبتعد عن الاهتمام بالشأن العام والسياسي.. وقد يصل الامتناع عن الاعتراض إلى قبول ارتكاب الحكومات لجرائم ضد الإنسانية.
بقلم: عمرو حمزاوي
تحدث الفاشيات ونظم الحكم الشمولية والسلطوية بقمعها وبانتقاصها من الحقوق والحريات وبإلغائها لوجود الإنسان الفرد تشوهات خطيرة في مواطنات ومواطني الدول والمجتمعات التي تسيطر عليها.
وفي بلاد العرب، باستثناء تونس ولبنان، تصطنع السلطويات عبر ممارسة التعقب والقمع والتهديد بهما مواطنا خائفا يبتعد عن الاهتمام بالشأن العام والسياسي.
فيمتنع عن طلب المعلومة ويقتل بداخله تدريجيا الرغبة في معرفة حقائق الأوضاع في بلادنا، ويتجاهل عمدا انتهاكات الحقوق والحريات التي تفرض واقعها الأسود على حياتنا، ويعجز عن الدفاع عن حقه المشروع في الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة.
تصطنع السلطويات مواطنا عربيا مؤيدا لغياب الديمقراطية إن تهليلا أو صمتا، ومقتنعا بوجود الطوائف الزائفة من أعداء الوطن والخونة والمتآمرين والطابور الخامس وبالمقايضات السلطوية التي تساوم الناس على الأمن والخبز بالحق والحرية.
بل تصطنع السلطويات مواطنين لا يعترضون على التعقب والقمع طالما لم تمسهم ممارساتهما أو تمس دوائرهم القريبة، وقد يصل الامتناع عن الاعتراض هذا إلى حدود قبول ارتكاب الحكومات لجرائم ضد الإنسانية.
تصطنع السلطويات العربية الراهنة ومن خلال تشويه الوعي الجمعي مواطنا تحركه نوازع الانتقام من معارضي الحاكم الفرد ونخبته، مواطنا ينتج مع غيره فولكلور «التشفي الشعبي» المستمتع تارة بأنباء الاعتقالات والحبس والتحفظ على الممتلكات والمنع من السفر والإدراج على قوائم «الإرهابيين»، والمتعطش تارة أخرى لشائعات الإفك والزيف عن المدافعين عن الحقوق والحريات.
كذلك، وعبر الضغط المستمر على المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان والمطالبين بالديمقراطية، يصطنع الحكام السلطويون ونخبهم قوائم تستطيل باستمرار ممن ينعتونهم ظلما «خونة ومتآمرين» الذين للتشويه الممنهج في الفضاء العام.
السلطويات في بلاد العرب، عبر مساحات الفضاء العام والمساحات الإعلامية التي تديرها إما الأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو النخب المالية المتحالفة مع الحكام وتوظف لتشويه الوعي الجمعي للناس، تصطنع السلطويات مجموعات متخصصة في تزييف الحقيقة وتغييب المعلومة والترويج لصوت وموقف الحاكم الفرد كالصوت المشروع الأوحد والموقف الوطني الأوحد.
تعطي السلطوية تلك المجموعات المتخصصة من الألقاب ما يتلاءم مع الأوضاع الراهنة، هم الخبراء الاستراتيجيون والمحللون الأمنيون والإعلاميون المتميزون والمفكرون الذين تخلع عليهم صفات التعظيم فقط لكونهم يسبحون بحمد البطل المنقذ ويؤيدون سياساته وممارساته.
تمنح الألقاب لمجموعات تزييف الحقيقة لكي تنفذ من خلالها إلى الناس وتشوه سيكولوجيتهم الجمعية، وتلك المجموعات في التحليل الأخير ليست سوى عصابات مأجورة تعمل كأبواق للحاكم الفرد ونخبته أو تستخدمها المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية أو تخدم شبكات المصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة مع السلطوية.
بعيدا عن بلدان الخليج الغنية بعوائد ثرواتها الطبيعية والتطور السريع في مؤسساتها المالية، يرتب طغيان الممارسات الأمنية وتراكم العنف والمظالم من جهة، ومن جهة أخرى محدودية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية في السلطويات الحاكمة في بلاد العرب تزايد تعويل الحكام على تزييف وعي المواطن وفرض ثقافة الخوف لكي تحول بين الناس وبين طلب التغيير.
تبتدع السلطويات يوما بعد يوم آليات إضافية للتمكين، فتتوالى محاولات نخب الحكم عبر مؤسسات وأجهزة الدولة المسيطر عليها ومن خلال النخب الاقتصادية والمالية والإعلامية المتحالفة معها لصياغة مزاعم بديلة لإقناع الناس إما بعدم التوقف عن تأييد الحاكم الفرد أو الاكتفاء حال عدم الرضاء عن السياسات والممارسات بالعزوف عن الشأن العام والامتناع عن تطوير العزوف إلى معارضة يتبعها بحث عن بديل.
وتلك في المجمل آليات ومحاولات تلي، ولا تسبق، استخدام أدوات العنف الرسمي لإجبار المواطن على الطاعة أو لإخافته من عواقب المعارضة.
تستطيل في الخطاب الرسمي للسلطوية، من المغرب والجزائر ومصر إلى سوريا والأردن، قوائم «الأعداء والمتآمرين» الذين يُدفع باتجاههم بمسؤولية تعثر جهود إخراج البلاد من أزماتها ويحملون ذنب إما الظروف المعيشية الصعبة لأغلبية الناس أو جرم الحروب والدماء والدمار.
تستطيل قوائم الأعداء والمتآمرين بانتظام لتشمل بجانب المعارضين السياسيين والمدافعين عن الحقوق والحريات منظمات المجتمع المدني التي تطالب بإنهاء التهميش الاقتصادي والاجتماعي للريف في المغرب وللمناطق الفقيرة في الجزائر وللنوبة في مصر أو تعمل على الأرض لإنقاذ الناس من ويلات الحروب والدماء كما في سوريا أو لمحاربة الفساد الحكومي كما في الأردن.
بل تستطيل دوائر الأعداء والمتآمرين لتشمل قطاعات أخرى كطلاب الجامعات الذين يتم فصلهم وتسلب حريتهم لرفضهم الممارسات الأمنية، والبعض من الشباب والعمال الذين يواصلون إما الاحتجاج السلمي على السياسات الرسمية أو يرفضون الرضوخ لأوامر الطاعة والامتثال الصادرة عن الحكم أو يكسرون حاجز الصمت بشأن المظالم والانتهاكات المتتالية.
إزاء هؤلاء تبرر وتمرر الإجراءات القمعية ضدهم ويحاصر بعنف حراكهم الراهن عبر اتهامات «العداء للوطن والتآمر على الدولة ومؤسساتها».
فالسلطويات العربية لا تتحمل الحديث العلني عن مظالمها وانتهاكاتها ولا تقوى على تحمل المسؤولية عن إخفاق سياساتها الرسمية والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي تفرضها على المواطنين.
وللتمكين أيضا، تعمد السلطويات الحاكمة في بلاد العرب إلى ضخ دماء إضافية للكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية ليعتاش عليها وحش الاستقطاب المجتمعي، ولتطلق تعويلا عليها اليد القمعية للأجهزة الأمنية باتجاه المعارضين ومنظمات المجتمع المدني المستقلة والمشاركين في الحراك السلمي المطالب بالتغيير ومحاربة الفساد.
يخرج رسميون ومسؤولون حكوميون ليطلقوا اتهامات جزافية بشأن هوية المتورطين في «أعمال الإرهاب وممارسات العنف وتهديد الاستقرار المجتمعي والسلم الأهلي» وليشيعوا الروح الانتقامية بين الناس، وليتبعوا ذلك بالمطالبة بإنزال العقاب الجماعي والفوري للمزعوم تورطهم في تلك الأمور الفضفاضة دوما والملفقة عموما ضد المصنفين كأعداء للوطن.
يفعلون ذلك دون تفكير في التداعيات الكارثية للجزافية وللتعميم على نسيج المجتمع الواحد، دون تقدير لخطورة مشاعر الانتقام والتشفي وشررها المتطاير باتجاه المجتمع والدولة، دون تدبر في أولوية مبادئ سيادة القانون والعدل لاستقرار المجتمعات وبقاء الدول.
٭ د. عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية وباحث بجامعة ستانفورد الأميركية.
المصدر: القدس العربي
مفاتيح: السلطويات العربية، الفضاء العام، الإعلام، الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، النخب المالية، التحالف مع الحكام، تشويه الوعي الجمعي، تزييف الحقيقة، تغييب المعلومة، الخطاب الرسمي للسلطوية، «الأعداء والمتآمرين»،