بعدما كانت حكراً على رؤساء العالم الثالث أصبحت مصطلحات “السلطوية” و”القمع” و”الظلم” و”التمييز” تستخدم لتحليل سلوك رئيس أميركي ووصف سلوك إحدى أعرق الديمقراطيات.
بقلم: خليل العناني
لم يتوقف السلوك الغرائبي للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عند حدود التغطية الإعلامية والصحافية التي لا تتوقف على مدار الساعة، وإنما بات أيضا يوفر مادةً جيدةً لباحثي العلوم السياسية ودارسيها، خصوصا في الولايات المتحدة، الذين يعانون من عدم القدرة على فهم هذا السلوك وتفسيره، ما وضع مناهجهم وطرقهم في التفكير والبحث في مأزق كبير.
فلا يمكن لباحث أو أستاذ جامعي في العلوم السياسية أن يتجاهل حجم التأثير الذي يتركه ترامب، ليس فقط على الشارع الأميركي، وإنما خارجه أيضا، سواء بتغريدة هنا أو تصريح هناك.
لذلك، بدأت المجلات والدوريات الأكاديمية في مجال العلوم السياسية تناول رئاسة ترامب، باعتبارها “ظاهرة” مختلفة كلياً عن سابقاتها، وهو ما يتطلب بذل مزيد من الجهد لفهم هذه الظاهرة، ووضع التصورات النظرية اللازمة لتفسيرها.
وعلى مدار العامين الماضيين، خصصت تلك المجلات، ومنها دوريتا “العلوم السياسية الأميركية” و”السياسة والسياسات”، وهما من أرقى الدوريات في مجال العلوم السياسية في العالم، أعداداً خاصة لتفكيك ظاهرة ترامب وفهمها، من جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والإعلامية والاحتجاجية. وهو ما أنعش سوق الكتابة عن الأوضاع الجارية في أميركا، ولكن من منظور أكاديمي.
ويبدو أن هناك ثلاث قضايا رئيسية تجعل من ترامب دوماً مادة جيدة للدراسة والبحث:
– تفسير سلوكه تجاه المخالفين له في الرأي والسياسة،
– فهم سلوكه تجاه الأجانب والمهاجرين وتفسيره،
– فهم سياسته الخارجية ومنظوره للعلاقات الدولية، إن وجد، والتي قلبها رأساً على عقب، كما حدث أخيرا في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وقد أفردت هذه الدوريات الأكاديمية أعدادا خاصة، مثلما حدث مع “آفاق في السياسة” (Perspectives on Politics) التي تناولت كيفية التعاطي والتطبيع مع “ما هو غير طبيعي” و”غير معتاد” في سياسات ترامب الداخلية والخارجية.
وقد كتب في الموضوع باحثون كبار وعلماء للسياسة في أرقى الجامعات الأميركية. كما تناولت دورية العلوم السياسية الأميركية (American Political Science Review) أيضا موضوعات عديدة عن رؤية ترامب وسياساته في التعاطي مع المهاجرين، كتب فيها كبار الباحثين والدارسين للعلوم السياسية في أميركا.
ولم تتوقف مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs)، في معظم أعدادها أخيرا عن التعرّض لسياسات ترامب، وتأثيراتها السلبية على الولايات المتحدة، داخلياً أو خارجياً.
بل أكثر من ذلك، خصصت مجلة “علم اجتماع الأديان”، وهي مجلة سوسيولوجية عريقة، عدداً خاصاً بشأن تأثير ظاهرة ترامب على السياسات الدينية، تناول ردود فعل الجماعات والأقليات الدينية على المواقف السياسية لترامب.
وإذا كانت غرائبية سلوك ترامب تمثل مشكلةً لباحثي السياسة وعلمائها في طرق الفهم ومناهج التفسير، فإنها أيضا تمثل فرصةً جيدة لهم، للخروج من أطرهم التقليدية في التعاطي مع السياسة الأميركية، وربما تدفعهم إلى اجتراح اقترابات ومناهج جديدة، قد تدفع علم السياسة نحو أفق جديد.
صحيحٌ أن سلوك ترامب الآن يعد استثناءً، مقارنه بسلوك من سبقوه من الرؤساء، إلا أنه قد يمثل عملية بعث وإعادة إحياء لعلم السياسة في طبعته الأميركية.
فعلى مدار العقود الماضية، كان صعبا استخدام مصطلحات، مثل “السلطوية” و”القمع” و”الظلم” و”التمييز”، لتحليل سلوك رئيس أميركي، فقد كان استخدام مثل هذه المصطلحات والتصنيفات حكراً على رؤساء العالم الثالث وزعمائه، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.
أما الآن فقد باتت تستخدم لوصف سلوك واحدة من أعرق الديمقراطيات، وهي الولايات المتحدة، وهو أمر لم يكن لأحدٍ أن يتخيله حتى وقت قريب.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية الزائر بجامعة جونزهوبكنز الأميركية.
المصدر: العربي الجديد
مفاتيح: دونالد ترامب، علوم السياسة، تفسير ظاهرة ترامب، “السلطوية”، “القمع”، “الظلم”، “التمييز”، كراهية المهاجرين، الديمقراطية، السياسات الدينية، حلف شمال الأطلسي،