انتشرت في الأيام الأخيرة انتقادات مكثّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول بثّ قناة العربية وثائقيا بعنوان (النكبة). ولمّا كنت قد أعددت وأخرجت وثائقيا بنفس العنوان (النكبة) قبل عشر سنوات على أربعة أجزاء، تظهر قصة نكبة فلسطين منذ عام ١٧٩٩، وتمت ترجمته بحمد الله إلى عشر لغات، وأصبح مرجعا للتدريس في الجامعات حول نكبة فلسطين، يمكن مشاهدته، فقد وجدت من واجبي أن أبحث عن حقيقة الوثائقي الحديث، ولماذا أثار هذه التعليقات، بل الاستهجانات!
واكتشفت بعد التدقيق، أن هذا الوثائقي الحديث (النكبة)، الذي تم بثه في جزأين يحملان اسم (الجزء الأول ١٨٩٧ – ١٩٤٨) و(الجزء الثاني ١٩٤٨ – ١٩٦٧) على قناة العربية، هو في الأصل وثائقي بعنوان (إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين)، وقد أنتجته شركة روتشي، وعرض لأول مرة في مهرجان السينما الإسرائيلية في باريس في مارس/آذار ٢٠١٨، ثم على قناة الآرتي الفرنسية في أبريل/نيسان، والآن على قناة العربية في يوليو/تموز.
ومخرج الوثائقي إسرائيلي فرنسي هو وليم كارل وزوجته المخرجة بلانش فنغر، وهما معروفان بسلسلتهما الوثائقية في ثمانية أجزاء حول الهولوكست والتي أنتجت عام ٢٠١٥، والمنتجة دومينيك طيبي مديرة شركة روتشي. وقد استضافت الإذاعات الفرنسية في الذكرى السبعين ل (تأسيس إسرائيل) المخرجين للحديث عن هذا الوثائقي، وهذا هو الرابط للوثائقي الأصلي باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
من الطبيعي إذن أن يتساءل كل منا عن السبب الذي دعا قناة عربية إلى شراء وبثّ هذا العمل الذي يحكي قصة (إسرائيل) من وجهة النظر الصهيونية التقليدية الكاملة، وترجمته إلى اللغة العربية! ولكن المدهش بالنسبة لي، هو تحويل عنوان العمل من (إسرائيل: الأرض الموعودة مرتين) إلى (النكبة)!
فالعمل في الأصل لا يدعي أنه يتناول النكبة لأن المخرجين وفريق العمل يتناولون التاريخ من وجهة النظر الصهيونية التي ترى تأسيس إسرائيل (حلما) وتعطي كل التبريرات لـ”ظهور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” نتيجة “ظروف الحرب”.
فبعد نهاية الحديث عن عام ١٩٤٨ في هذا الوثائقي، وبداية الجزء الثاني، لم يعرض أي شيء يخص اللاجئين الفلسطينيين في أي دولة عربية، أو لقطة لأي مخيم، اللقطة الوحيدة لمخيم ظهرت لنازحي ١٩٦٧. ولم يرد أي ذكر ل ١٦٠ ألف فلسطيني بقوا داخل وطنهم وفرضهم عليهم المواطنة الإسرائيلية هم اليوم مليون ونصف يشكلون أصحاب البلاد من فلسطينيي الداخل.
كما أن “الفلسطيني” في هذا الوثائقي تتم رؤيته من عدسة “الصهيوني”، لذا فهو الآخر، والمخرب، والقاتل، والغبي، والتافه أو المنسي حين يجب أن ينسى. لكن نظرة فاحصة للوثائقي في جزئه الثاني، تثبت أن التشويه لم يكن مقصودا به ما حدث عام ١٩٤٨ فحسب، بل ما حدث عام ١٩٦٧ أيضا.
فحتى “هضبة الجولان وسيناء” وصفتا انهم فارغتان بلا سكان عام ١٩٦٧! ولم نر لقطة واحدة للأردن أو سوريا، وكأن مصر وحدها هي الجبهة، هذا عدا تشويه الحقبة الناصرية بتكثيف في هذا الوثائقي.
لا أريد أن أفند العمل أرشيفيا، فالغالبية العظمى من الأرشيف المستخدم لا علاقة له بالفترة الزمنية التي يتم الحديث عنها، وهو (كما كثير من الوثائقيات) يستخدم الأرشيف كأنه “صور لا معنى لها” فوق الزمن.
لكن الرواية الصهيونية فيه مدهشة أيضا، فهي الرواية الصهيونية التقليدية التي لم تعد تلقى رواجا حتى في الأطر الصهيونية الحداثية، وكأن المؤرخين الإسرائيليين الجدد لم يفندوا هذه الرواية وينسفوها من أساسها منذ أواسط التسعينات، وكأن عشرات الكتب بكل لغات العالم لم تثبت أن الرواية الصهيونية لم تعد قادرة على العيش حتى في أوساط الصهيونية التقليدية.
فالوثائقي يقول أن فلسطين كانت أوائل القرن العشرين “قاحلة بها مستنقعات” وأن الصهاينة الأوائل كانوا “شبانا أوروبيين مثاليين” وأن الكيبوتس كان “رمز التعاون” على الأرض، وأن “الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود الوافدين”، وأن “القومية العربية كانت معادية للسامية منذ ١٩٢٠”.
وأن “ثورة ١٩٣٦ هي أعمال شغب” وأنه حين ولدت “دولة إسرائيل تحول الحلم إلى حقيقة” وأن “كل محاولات إسرائيل لإقامة دولتين فشلت بسبب الفلسطينيين” وغير ذلك الكثير. عدا استخدام كم هائل من المصطلحات الصهيونية مثل “حرب ١٩٤٨” و”حرب ١٩٦٧” و”حائط المبكى” و”الإدارة الإسرائيلية” (وليس الاحتلال) و”سكان يهودا والسامرة”…إلخ، وصولا إلى اختراع مصطلحات مضحكة مثل “صحراء النجف”، التي كانت ترجمة حرفية من العبرية والإنجليزية لمترجم ومحرر أبعد ما يكونان عن الثقافة (!)، بدل “صحراء النقب”.
هذا عدا سيل من الأخطاء التاريخية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أن “شبانا يهودا” هم من اشتروا أرضا لإقامة “ريشون لتسيون” عام ١٨٨٢ من الفلسطينيين. والحقيقة أن الصهاينة حاولوا شراء قطعة أرض عام ١٨٨٢ وحينما لم تتم الصفقة بسبب معارضة الوالي العثماني، تدخل نائب قنصل بريطانيا في يافا فاشترى الأرض وسجلها باسمه وسميت مستعمرة «ريشون لتسيون» وهي عبارة توراتية تعني «الأول أو الطليعي في صهيون»، كجزء من دعم بريطانيا لمخطط الصهيونية في فلسطين. ووثق ذلك الراحل العلامة د. عبد الوهاب المسيري في موسوعته.
وأن “الهاغاناة هي الجماعة المسلحة للدفاع عن اليهود الفلسطينيين” (!) والحقيقة أنها الجماعة التي أسستها ودربتها وسلحتها بريطانيا منذ ١٩٢٠ للدفاع عن الصهاينة المستعمرين، وبدأت نواتها بفيلق صهيوني دخل القدس عام ١٩١٧ مع الجيش البريطاني المحتل.
وأن الزعماء العرب قالوا للفلسطينيين عام ١٩٤٨: “غادروا! سنفوز ويمكنكم العودة لاحقا”. والحقيقة أن هذا لم يحصل أبدا، ولا حتى في الإذاعات العربية كما روجت الرواية الصهيونية التقليدية، ودحض ذلك المؤرخ الإسرائيلي البرفسور آفي شليم، الأستاذ في جامعة أكسفورد، وأثبت عدم صحته.
وأن إليانور روزفلت كانت تجلس مع بن غوريون في تل أبيب في نوفمبر ١٩٤٧ يستمعان سويا لنتائج تصويت قرار التقسيم، مرفقين في الوثائقي صورة لهما سويا مع مذياع. والحقيقة أن السياسية الأمريكية (والسيدة الأولى سابقا) لم تزر تل أبيب إلا عام ١٩٥٢ لأول مرة، والصورة من عام ١٩٥٢ وليس ١٩٤٧!
وأنه قد تم طرد ٨٣٠ ألف يهودي من دول عربية. والحقيقة أن الموساد عمل على تهجير بطيء وتدريجي لليهود العرب طوال الخمسينات والستينات إلى إسرائيل، والآن تستخدم هذه العبارة لتقول ٨٥٠ ألف لاجئ فلسطيني طردوا خارج فلسطين، و٨٥٠ ألف لاجئ يهودي عربي لجأوا إلى إسرائيل. هذه بتلك!
أخيرا، أشعر بالأسف لبعض الضيوف الذين شاركوا في البرنامج، وأعرف أنهم لا يؤيدون الرواية الصهيونية، إلا أنه قد تم استخدامهم وقطع مقاطعهم الصوتية بطريقة مشوهة بشكل واضح، لدعم الرواية الصهيونية التي أرادها صناع العمل.
وكلّ ما أطلبه ممن يقرأ أعلاه، أن يشاهد ويدرس سلسلة النكبة الوثائقية الاصلية (٤ أجزاء) التي تروي قصتنا بدقة ومهنية، ليكون مسلحا بالمعلومة الدقيقة للرد على كل أشكال التشويه والتلفيق.
وأن ينشر السلسلة على أوسع نطاق لأصدقائه في كل العالم، كونها متاحة بعشر لغات هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والبوسنية والتركية والروسية ولغة الإشارة، وتستخدم في التدريس في جامعات العالم – السلسلة بكل اللغات عبر هذا الرابط: https://bit.ly/2ghsa8z
فقد خسرنا معارك كثيرة في واقعنا الفلسطيني، لكننا يجب أن لا نخسر معركة الوعي أبدا.
* روان الضامن – صانعة أفلام وثائقية ومستشارة إعلامية
** المصدر: شبكة راية الإعلامية