بقلم: غسان شربل
ركض الغزال مذعوراً متسلحاً ببراءته. صوّب القائد نحوه وأرداه. إننا في رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، واسم الصياد الزائر معمر القذافي.
أَحضَروا الغزال- الشهيد ليمثُل أمام جلاّده، أدخَلَ يديه في صدر القتيل ثم راح يدهنهما بدمه. كان نوري المسماري حاضراً كعادته. إنه أمين المراسم وحارس الأسرار. استغرَبَ المشهد وسَأَلْ، فردّ القائد: “أنت لا تعرف فوائد الدم الدافئ”.
سمعتُ القصة حين روى المسماري لـ”الحياة” قصة القذافي بكل ما حَوَتْه من ارتكابات واغتصابات. استمعتُ إلى نهر من الفظاعات، إلى حكاية رجل إلْتَهَمَ السلطة وكان يتلذذ بِالْتِهَام النساء. وعلى رغم كل ما في الرواية من أهوال، استَولَت قصّة الغزال عليّ تماماً كما استولت عليّ رواية مسعود بارزاني عن الكردية التي كانت تحمل في كيس، أشلاء أربعة من أبنائها.
أعرفُ أن من واجب الصحافي الاحتفاظ برصانته، وأن يكبح انفعالاته كي لا تُشوّش قدرته على القراءة الهادئة، وأن الانخراط العاطفي يوقع في المبالغات، وأن الرّثاء لا يعيد إعمار مدينة أكلتها النار، وأن الدموع لا تعيد طفلاً اغتالته قذيفة. لكن بعض المشاهد يفوق قدرة العربي على الاحتمال. ليس بسيطاً أن نرى ما بقي من حمص، وأشلاء حلب، وأن نرى سورية ملعباً بعدما كانت لاعباً. وأن نرى خرائط صغيرة تطل برأسها من رماد الخريطة الممزقة. وإذا صحّت المخاوف، فإن ما شهدناه حتى الآن من الآلام، لن يكون أكثر من المقبّلات، استعداداً للوليمة الكبرى.
كلما شاهدتُ فلاديمير بوتين يتحدث عن سورية تهاجمني قصة الغزال، ليس فقط لأن الرئيس الروسي يبتهج أحياناً بالتقاط الصور له مع طرائده، بل أيضاً لأنني لا أستطيع أن أصدّق أن روسيا فعلت كل ما في استطاعتها لوقف المذبحة المفتوحة في سورية.
أعرفُ أن الكولونيل السابق في الـ”كي جي بي” يملك رغبة عميقة في الثأر من القوى التي احتفلت باندحار الاتحاد السوفياتي وانتحاره، ومن القوى التي أذلّت السلاح السوفياتي- الروسي، مرّة في العراق وأخرى في ليبيا، ومن غطرسة القوة العظمى الوحيدة، ومن انضواء الأمم المتحدة تحت قبّعة الولايات المتحدة.
لا أتهم بوتين بقتل الغزال السوري. أتهمه بمحاولة الصيد في دمه لتلميع صورة روسيا والتذكير بأنيابها، وإظهار عجز الغرب عن تكرار ما فعل في ليبيا.
تعامُل باراك أوباما مع الأزمة السورية يذكّرني أيضاً بالغزال ودم الغزال. أنا لا أطالبه بالتدخُّل وأُدرك خطورة مثل هذه المغامرة، لكنني أخشى أن يكون حولَهُ مَنْ يبتهج باستنزاف النظام السوري والمقاتلين الجوّالين والدعم الإيراني وتعميق أزمة روسيا مع المشاعر العربية والإسلامية والدولية، الداعية الى التغيير في سورية. لا أستطيع أن أصدّق أن إدارة أوباما فعلت كل ما تستطيعه لوقف نهر الدم في سورية.
لا جدوى من التذكير بوحشية آلة النظام في قمع المنتفضين ضده، ولا بالممارسات الفظة لبعض المقاتلين الوافدين حاملين برنامجاً يناقض جوهر تركيبة سورية وشروط وحدتها. باتت المسألة أبعد وأخطر.
إن السباحة في دم الغزال السوري تنذر بحرب أهلية إقليمية. سورية التي تسبح في دمها خطرة على سورية والمنطقة معاً. حان موعد المسؤولية الدولية، من البيت الأبيض الى الكرملين. حان موعد فرض حل يُنقذ وحدة سورية ويحترم إرادة غالبية السوريين، ويطمئِن كل المكوّنات. لن ينفع الندم بعد فوات الأوان.