يُقيم الاقتصاد السوري في بيت العجز الواسع منذ بداية الحرب. تلك الورطة القاسيّة التي حوّلته إلى مجرّد أرقامٍ سخيّة تطفو فوق أوراق الموازنات السنويّة قبل إقرارها الروتينيّ عاماً بعد عام، بحيث بلغت اعتمادات الموازنة العامة للسنة المالية 2018 نحو 3187 مليار ليرة سورية، وهذا يعادل 6.3 مليار دولار أمريكي، في حين كانت قرابة 754 مليار ليرة في موازنة عام 2010، لكنها كانت تساوي 16.5 مليار دولار بناء على فروقات سعر الصرف المعتمد في أرقام الموازنتين.
وهذا يعني أن اعتمادات الموازنة السوريّة انخفضت بشكل كبير يمكن حسابه لاستنتاج قيمة العجز التراكمي البالغ قرابة 264 في المئة بين العامين 2011 و2018. كما أصاب الناتج المحلي انخفاضٍ غير مسبوق قدّرته الأرقام الرسميّة بنحو 45 في المئة، وبلغت قيمة خسائر الحرب حوالي 275 مليار دولار، وتوقع البنك الدولي أن تصل الخسائر التراكمية إلى 13,2 ضعف الناتج المحلّي، في حال انتهى الصراع المسلّح في سوريا عام 2021.
اقتصاد ريعيّ، ثقافة ريعيّة
يزحف العجز فوق موازناتٍ شكليّة، فتزداد الهوّة بين النفقات والإيرادات اتساعاً، وتكشف المشكلة المزمنة منذ سنواتٍ عن وجهها، إذ لا مصادر حقيقيّة لتمويل الموازنات، بعد أن جفّت إيرادات تصدير النفط الخام، وإيرادات السياحة الموسميّة، وهما على أيّ حال إيراداتٌ ريعيّة، لكنهما لجما فيما مضى العجز ومنعاه من الوصول إلى معدّلاتٍ كارثية كالتي وصلها خلال الحرب.
والريع عند “آدم سميث” هو الدخل غير الناجم عن أيّ جهدٍ أو عمل أو تضحية أو مشّقة. وعند “ألفريد مارشال” هو ذلك الجزء من الدخل الذي يزيد على نفقة الإنتاج (قيمة التضحية أو الجهد) أي أنّه الفرق بين ما يحصل عليه المنتِج أو البائع وبين الحدّ الأدنى من الدخل الذي كان مستعدّاً لقبوله. ثم اتسع مفهوم الريع في الاقتصاديات الحديثة ليشمل أيضاً كل الأسعار الاحتكارية، وأسعار المضاربات العقارية والمالية التي يكون الفارق بينها وبين كلفتها غير مبرّر من الناحية الاقتصاديّة.
يبلغ العجز حوالي 808 مليار ليرة، وهو ليس مفاجئاً أو طارئاً، لكن المشكلة تخصُّ منهجيّة التعامل معه، إذ ترى الحكومة السوريّة الحالية – كما سابقاتها – أنّ تمويل النفقات سيتم بالعجز نفسه وبترحيل الدين إلى موازنة العام التالي، وهذا يزيد من قيمته التراكمية، ومن وقوع الاقتصاد السوري في أشراك القروض الخارجية المحتملة، وإملاءات البنك الدولي..
والثابت بأن الريع هو السمة البارزة للاقتصاد السوري، ليس فقط خلال سنوات الحرب، بل وقبل ذلك، لدرجة يسهل معها الجزم باستساغة الثقافة الريّعيّة كنمط تفكيرٍ اقتصادي سياسي واجتماعي أيضاً، وتحوّلها تدريجيّاً إلى مصدر إلهامٍ لمن ركب موجتها. فقد تنامت قوّة ونفوذ شريحة اجتماعية استفادت من هذا النمط الاقتصادي المديد الذي استقدم معه تشّوه في توزيع الدخل القومي، وأعاد تمرّكز الثروة لدى قلّة، وعزل الثقافة الإنتاجية عن أولويات التفكير الاقتصادي. وبقراءة في بعض أرقام المكتب المركزي للإحصاء يظهر أن صافي الناتج المحلي في القطاع العام الصناعي عام 2014 (بالأسعار الجارية) بلغ قرابة 578 مليار ليرة، وانخفضت هذه القيمة إلى 352 مليار ليرة عام 2015، ثم ارتفعت على نحوٍ طفيف عام 2016 لتصل إلى 521 مليار ليرة فقط.
وخلافاً لشعارات الستينات والسبعينات من القرن الفائت وهي طنانة، فقد تعطّل التفكير الإنتاجي في زمن حكم البعث للبلاد، وسادت بين الناس ثقافة الاتكال على الدولة في تأمين العمل، وهذه الأخيرة استسهلت تقديم الوظيفة الريعيّة، فتضخم جهاز الدولة الإداري عدداً (البطالة المقنّعة) وتعطلّت قوة العمل الحقيقيّة، ونشأ تشوّه بنيويّ في الدور الاجتماعي المفترض للدولة، وترافق ذلك مع تورّط المجتمع بقبول ثقافة ريعيّة قوامها الخمول الإنتاجي والإبداعي، وهي صارت مع مرور الوقت أحد سماته السوسيولوجيّة الهامة.
نصف الكأس الذي نراه
تراجعت الإيرادات العامة بين عامي 2011 و2018 قرابة 63 في المئة، بحيث بلغت في موازنة العام الحالي 2379 مليار ليرة، في حين تبلغ قيمة النفقات العامة 3187 مليار ليرة، أي أن مقدار العجز يبلغ حوالي 808 مليار ليرة. وهو على أيّ حال ليس عجزاً مفاجئاً أو طارئاً، لكن المشكلة تخصُّ منهجيّة التعامل معه، إذ ترى الحكومة السوريّة الحالية – كما سابقاتها – أنّ تمويل النفقات سيتم بالعجز، وبترحيل قيمة الدين إلى موازنة العام التالي، وهذا يزيد من قيمة العجز التراكمي، ووقوع الاقتصاد السوري في أشراك القروض الخارجية المحتملة، وإملاءات البنك الدولي، ومعه إملاءات الدول المانحة لأيّ مساعدات مالية محتملة. وهذه حلقة مفرغة تثبِّت ملامح الدولة الريعيّة، وتزيد مساحة الاقتصاد الريعيّ داخل الاقتصاد الكلّي للبلاد.
تزيد قيمة الحوالات الآتية من الخارج إلى سوريا (وهي في الغالب مساعدات مرسلة للأهل) عن 4 مليون دولار في اليوم الواحد، وهذا الرقم يفوق على سبيل المثال الكتلة السنويّة للرواتب والأجور البالغة 478 مليار ليرة..
ثّمة فرق بين الاقتصاد الريعيّ والدولة الريعيّة، ومع ذلك فهما يلتقيان عند النسبة العالية للمداخيل الريعيّة الخارجيّة في الناتج المحلي الإجمالي، ويفترقان عند نسبة مشاركة المواطنين في توليد الريع والافادة منه، بحيث لا ينجم عن الاقتصاد الريعيّ بالضرورة دولةً ريعية، غير أنّ الدولة الريعيّة تخلق حتماً اقتصاداً ريعياً.
وفي سوريا، ثمّة دولة ريعيّة اتضحت معالمها الأساسية في السنوات الأخيرة، لتقدّم لنا نموذجاً باهراً من الاقتصاد الريعيّ. وبحسب الأرقام الرسميّة، فإن قيمة الحوالات الآتية من الخارج إلى سوريا تزيد عن 4 مليون دولار في اليوم الواحد. وهذا الرقم الضخم يفوق على سبيل المثال الكتلة السنويّة للرواتب والأجور البالغة 478 مليار ليرة، كما أنّه مؤشر هام لفهم تنامي البنية الريعيّة للاقتصاد السوري، باعتبار أنّ الحوالات المالية (وهي غالباص مساعدات للأهل) هي أحد مصادر الدخل الريعيّ لعدد لا بأس به من السوريين.
وإذا تفقّدنا بوصلة التفكير الحكومي حين تتجه إلى ما يمسّى “بإعادة الإعمار”، نجده تفكيراً ريعيّاً بامتياز، ليس فقط بسبب اللغط الذي رافق المرسوم رقم 10 الخاص بطرق تثبيت ملكيّات النازحين من المناطق المدمّرة، بل لأن السلطة لا ترى في “إعادة الإعمار” سوى بازار عقاري مفتوح، وهبات توزّع على الحلفاء، حيث لا خطط واضحة لإعادة بناء القطاع الإنتاجي كما فعل الأوربيون بعد الحرب العالمية الثانية، ولا نوايا رسمية لذلك أساساً. فالدولة الريعيّة لا تفكر خارج منطق الكسب بلا تكلفة، ولا تملك مفردات من خارج قاموس الريع الضيّق.
أيمن الشوفي
هذا المقال منقول ونشر لأول مرة في موقع جريد السفير العربي