حالة الاستقطاب العربية ستظل فترة ليست قصيرة في ظل الانقسامات والتوترات الإقليمية الراهنة، وطالما بقي أردوغان في السلطة!
كيف باتت تركيا مرآة للعالم العربي بمشكلاته واستقطاباته وتوتراته، كما هي بآماله وطموحاته وتطلعاته؟
ساهمت شخصية الرئيس أردوغان الكاريزمية، وخطابه كثيرا في تعزيز الحضور التركي بالفضاء العربي.
بقلم: خليل العناني
لم يعد غريباً أن تصبح تركيا، بنجاحاتها أو أزماتها، محلّ استقطاب وجدل كبيريْن في العالم العربي. ولم يعد مفاجئاً أن تنتقل آفة الانقسام والتوتر بين العرب من قضاياهم ومشكلاتهم إلى القضايا والمشكلات التركية، بحيث بات سهلاً أن تعرف توجهات المواطنين العرب وأفكارهم من قضاياهم من خلال ما يحدث في تركيا.
وكأن تركيا باتت مرآة للعالم العربي بمشكلاته واستقطاباته وتوتراته، كما هي بآماله وطموحاته وتطلعاته. ومن يتابع الاستقطاب والانقسام بين العرب على خلفية أزمة الليرة التركية، على مستوى النخب والشعوب، سيكتشف ما وصلنا إليه، نحن العرب، من تصدير فائض الانقسام والتوتّر إلى تركيا، فباتت حاضرةً في كثير من أزماتنا.
قطعا لم يأت هذا الاهتمام العربي بتركيا وقضاياها من فراغ، وإنما لعبت تركيا دوراً في تعزيزه، خصوصا خلال السنوات العشر الماضية التي كانت فيها أنقرة حاضرةً في قضايا وأزمات عربية كثيرة، بدءاً من دعم الثورات العربية في بداياتها، مروراً بعلاقاتها المتأرجحة مع إسرائيل، وصولاً إلى دورها وتدخّلها في المسألة السورية.
كما ساهمت شخصية الرئيس رجب طيب أردوغان الكاريزمية، وخطابه في تعزيز الحضور التركي بالفضاء العربي، بشكل كبير ما بين تهويل وتهوين. لذا أصبح أردوغان نفسه محل انقسام وتوتر دائم على صفحات “السوشيال ميديا”، ومثار تجاذب وتوتر بين كثير من الشباب العربي.
يزور المواطن العربي إسطنبول أو غيرها من المدن التركية، فيكتشف عالماً غنياً بالعراقة التاريخية والحضارية التي تضرب بجذورها في التاريخ الإسلامي، سواء بازدهاره وتطوره أو بمشكلاته وانتكاساته.
وتأخذه حالة التطور الاقتصادي والمعماري التي تسير بها تركيا، بحيث باتت مكاناً يجمع بين الماضي والحاضر، وبين العمق التاريخي والتأثير الراهن في مجريات المنطقة.
وهو لا يخفي إعجابه بالتجربة السياسية التركية، رغم ما يشوبها من مشكلات وقضايا قد يراها ذاك العربي رفاهيةً، مقارنة بما يحدث في بلاده. ويعود المواطن نفسُه إلى بلاده، فتبدأ المقارنة بينها وبين تركيا، فيزداد سخطه على الأولى وقياداتها، ويزداد إعجابه وتعلّقه بالثانية.
وفي حين يرى آخرون أن تركيا منبع الخلافات والمشكلات العربية، وأنها تلعب دوراً “تخريبياً” في قضايا المنطقة. ويزداد حنق هؤلاء وغضبهم على تركيا، لأن رئيسها إسلامي، أو ينتمي لحركة إسلامية تستحوذ على السلطة منذ أكثر من عقد ونصف العقد.
بل وتحقق نجاحاتٍ لم يكن لأحد أن يتوقعها قبل تلك الفترة. كما أنه في حين يعتبر بعضهم أن تركيا تمثل “النموذج” الملهم، الذي يجب أن تسير عليه البلدان العربية، يراها آخرون العدو الأول لهم، وأنها مصدر التوتر والقلق في المنطقة.
ومأساة هؤلاء صمتهم المطبق على الجرائم التي ترتكب بحق زملائهم المواطنين من حكوماتهم ومؤسساتهم النافذة. في حين يرى آخرون تركيا الملاذ الوحيد الآمن من بطش هذه الحكومات والمؤسسات.
ويكفي أن تمشي في شوارع إسطنبول، كي ترى حجم الوجود العربي في تركيا، من مختلف الجنسيات والخلفيات الفكرية والإيديولوجية، وكأنها احتلت مكان بيروت التي كانت عاصمةً مفتوحةً لكل المضطهدين العرب في الستينيات والسبعينيات.
ويمكن القول، بقدر من الثقة، إن حالة الاستقطاب العربية هذه ستظل معنا فترة ليست قصيرة، خصوصا في ظل الانقسامات والتوترات الإقليمية الراهنة، وطالما بقي أردوغان في السلطة.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية الزائر بجامعة جونزهوبكنز.