رؤية مختلفة للأحداث !

الحروب السورية: من درعا إلى درعا

درعا
0

درعا هى المدينة التى انطلق منها فى مارس ٢٠١١ الحراك السورى فى إطار الربيع العربى حينذاك، الواعد والحامل لحلم التغيير. الحراك الذى أطلق الصراع فى سوريا والذى سرعان ما تحول إلى صراع حول سوريا بعد أن خطفته صراعات وأجندات الكبار الدوليين والإقليميين.
ولا عجب فى ذلك، إذا تذكرنا موقع سوريا فى قلب الجغرافيا السياسية فى المنطقة أيا كان الممسك بمفاتيح القرار فى دمشق.
درعا اليوم، صارت رمزا ونموذجا لصفقات الكبار وتقاطع المصالح بينهم، حلفاء وخصوم، فى المسرح الاستراتيجى السورى.

المواجهة الكبرى، بالوكالة أولا، وبشكل مباشر ثانيا بالنسبة للبعض، بين الغرب الداعى للتغيير وحامل راية الديمقراطية ومعه تركيا الأطلسية الإسلاموية وأكثرية المنظومة العربية المصطدمة بالسياسة الخارجية لسوريا وليس بالضرورة حول القضايا الداخلية مثل طبيعة السلطة، غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من جهة، ومن جهة ثانية، مع تحالف داعم للسلطة السورية تحت عناوين من نوع عالم ثالثى ومقاوم للهيمنة الغربية، طرفاه أساسا إيران الإسلاموية وروسيا الاتحادية بشكل خاص.

هذه المواجهة اندثرت مع الوقت لتختلط الأوراق ويحل محلها تحالف قائم على تفاهمات بـ«القطعة». تحالفات تعكس المصالح الحيوية التى صارت معرضة للتهديد لكل الأطراف الخارجية. إن لم يكن سقط بالفعل، مسار جنيف الأممى الغربى العربى النشأة والرعاية، وحل مكانه بقوة الواقع مسار أستانة الثلاثى، الروسى فى دور المايسترو، ومعه إيران وتركيا.

تغيرات

يجرى اليوم إخراج وإبعاد المقاومة المسلحة من درعا بعد أن أبلغها أصدقاؤها الخارجيون بانتهاء دورها فى الجنوب الغربى لسوريا، ليجرى تسليم المنطقة بشكل تدرجى إلى السلطات السورية بضمانات ومواكبة وتواجد روسى. يحظى هذا الانقلاب على الأرض بتوافق واسع قائم على مجموعة تفاهمات يضم إلى جانب إسرائيل، كلا من روسيا الاتحادية والولايات المتحدة والقوى الغربية وأكثرية المنظومة العربية، عنوانه أن يكون الجولان، كما كان عند فك الارتباط على الجبهة السورية الإسرائيلية عام ١٩٧٤، إلى حين انفجار الوضع السورى: جبهة هادئة ووقف إطلاق نار كلى وتام، وأن تكون إيران وحلفاؤها من تنظيمات بعيدة عن الجبهة بمسافة تتراوح بين ٥٠ ــ ٦٠ كيلومترا كما يرى الروس، و٨٠ كيلومترا كما تطالب إسرائيل.

هذا التوافق حول فرض الاستقرار الإقليمى فى منطقة شديدة الحساسية يعبر عن تلاقٍ بين مختلف الأطراف المشار إليها لمنع إيران من إمساك ورقة أساسية عبر البوابة السورية فى دبلوماسية الصراع العربى ــ الإسرائيلى وهى الموجودة بقوة فى إطار هذا الصراع عبر حلفائها فى لبنان وأيضا عبر غزة، ولو بشكل متغير وأقل تأثيرا.

قرار نجح به «المهندس» الروسى عبر اتصالاته المكثفة والموازية مع كل من إسرائيل وإيران. يأتى ذلك فى لحظة تصاعد الصدام الأمريكى العربى الأكثرى مع إيران على مسرح مواجهة يمتد من اليمن إلى لبنان.

ويبدو أن هناك تجاوبا إيرانيا، يعبر عن الواقعية السياسية الإيرانية، الذى قد يكون مؤقتا مع هذا التوجه. وإيران تدرك، كما تدرك روسيا، أن شعار إخراج إيران من سوريا كليا وليس فقط إبعادها عن الجبهة السورية الإسرائيلية أمر غير واقعى فى سياق تطورات الأزمة السورية، على الأقل فى المدى المنظور، وطالما لم تتم تسوية نهائية فى سوريا تشارك فيها إيران.

منطقة شمال غرب الفرات سلمت إلى تركيا التى أيضا صار لها موطئ قدم فى منبج الكردية بدعم روسى إيرانى أساسا، فيما شرق الفرات وشماله التى سلمها الأمريكيون إلى حلفائهم الأكراد مع توفير الدعم لهم، وهى منطقة آبار النفط والغاز الأساسية هى من نقاط التوتر، إذ إن واشنطن تريد الإمساك بها عبر حلفائها وأصدقائها لإقفال إحدى أهم بوابات العبور الإيرانية إلى سوريا. ويبقى اهتمام السلطات السورية ومعها فى ذلك روسيا وإيران بالحفاظ على ما يعرف بـ«سوريا المفيدة» الممتدة من حلب شمالا والمرهون وضعها بتوافق روسى تركى إلى دمشق وصولا إلى الحدود مع الأردن والجولان وإلى الساحل السورى.

***

الحلول التى تحاول أن تفرضها التفاهمات الدولية القائمة على تقاطع وتصادم المصالح قد تكون مؤقتة وهشة فى الزمان وفى المكان بانتظار التوصل إلى تسوية سياسية شاملة لإقفال الملف السورى. تسوية تحظى بالفعل وليس بالشكل بدعم جميع القوى الخارجية المؤثرة والوازنة بحكم وجودها المباشر وعبر حلفائها المحليين فى المسرح السورى. وللتذكير، فقد رأينا منذ صيف ٢٠١٢ (فى مقالة فى صحيفة لوريان لوجور اللبنانية) أن المدخل الواقعى لتسوية الأزمة السورية، بعد سنتها الأولى حينذاك، يمر عبر مؤتمر «طائف دولى» يحدد إطار الحل بشكل عام، يلحقه «طائف سورى» يشارك من خلاله مختلف مكونات الشعب السورى فى صياغة الحل الوطنى (على غرار تسوية الأزمة اللبنانية عام ١٩٨٩ فى الاجتماع الذى رعته المملكة العربية السعودية فى مدينة الطائف).

ختاما، أجد من الضرورى العودة إلى قراءة كتاب باتريك سيل بعنوان «الصراع حول سوريا ١٩٤٥ــ ١٩٥٨». اللاعبون يتغيرون، والعناوين الأيديولوجية والسياسية تتغير، ولكن المصالح الحيوية لمختلف القوى تبقى هى هى. إنها لعنة الجغرافيا السياسية الجاذبة للتدخل فى لحظات الضعف والوهن والانكشاف، ولبنان، لسنوات طويلة، كان خير نموذج لذلك قبل أن تخطف منه سوريا، بثقلها وموقعها، مركز الصدارة.

 

 

ناصيف حتي

 

 

هذا المقال نقلا عن صحيفة الشروق

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق