رؤية مختلفة للأحداث !

تحالفات القرن الافريقي والصراع على باب المندب

0

يبقى غلق باب المندب مصدر قلق مستمر للغرب، نظرا لمصالحه والمصالح الاسرائيلية ايضا لأنه سيحول دون وصول ناقلات النفط من الدول الخليجية إلى قناة السويس.

بقلم: سعيد الشهابي

برغم الجهود الدولية لتجاوز الطرق البحرية التقليدية للحركة التجارية، ما تزال الممرات المائية الضيقة التي تفصل بين البحار قضية للتنافس بين الدول. وعلى مر العصور سعت الدول لاختصار المسافات التي تقطعها البواخر لنقل البضائع بين مناطق العالم المختلفة.

فقد حفرت قناة السويس قبل 150 عاما تقريبا لاختصار المسافة الشاسعة بين الشرق والغرب، وتجاوز الرحلة الطويلة التي كانت تمر عبر «رأس الرجاء الصالح» في جنوب اقريقيا.

ثم حفرت قناة بنما لوصل البحار الواقعة شرق أميركا بتلك التي تقع غربها. وطوال الحرب الباردة كان الحديث عن السيطرة على «مياه الخليج الدافئة» واحدا من محاور الصراع بين المعسكرين، الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

ويمثل مضيق هرمز نقطة تماس خطيرة ازدادت حساسيتها بعد الثورة الاسلامية في إيران وتصاعد الخشية من قدرتها على غلق ذلك المنفذ الحيوي. ويمثل مضيق باب المندب نقطة تماس اخرى ازدادت اهميتها بعد حفر قناة السويس.

وقد حاولت الدول المعنية، خصوصا التي تصدر النفط تجاوز تلك المضيقات ببناء انابيب النفط والغاز. فالسعودية قامت ببناء خط «التابلاين» لنقل النفط من المنطقة الشرقية إلى البحر المتوسط.

وهناك انبوب نفطي من اذربيجان إلى البحر المتوسط عبر تركيا لنقل النفط من اذربيجان ولاحقا كازاخستان. كما تسعى إيران لتشجيع باكستان على بناء انبوب للغاز يصل بين البلدين. وفي السنوات الاخيرة بدأ الحديث ضمن مشاعر نوستالجية لاعادة احياء «طريق الحرير» الذي كان يصل بين الصين واوروبا عبر الهند وباكستان وإيران ودول اخرى على الطريق.

برغم هذه الجهود والاحلام التي تبدو وردية في بعض الاحيان، تبقى المضيقات المائية التقليدية في جوهر الصراع على النفوذ.

واذا كانت «بريطانيا العظمى» قد بسطت نفوذها على البحار خصوصا في القرنين السابع عشر والثامن عشر لحماية خطوطها الملاحية التي كانت تديرها شركة الهند الشرقية. وتصدت للقراصنة التي كانوا يهاجمون سفنها التجارية التي كانت تمخر البحار بين الهند وبريطانيا، فان الوضع لم يتغير اليوم.

فالدول الكبرى لديها اساطيل حربية عملاقة تمارس مهمات عديدة من بينها حماية الخطوط الملاحية. وكان لهذه الاساطيل دورها في التصدي للقرصنة التي داهمت خطوط الملاحة على الساحل الشرقي عشرة اعوام بعد العام 2005.

وفي العام الماضي تصاعد التوتر في بحر الصين ومحيطه عندما قامت الصين ببناء قواعد بحرية لها في جزر متنازع عليها، واعتبرت الولايات المتحدة ذلك العمل استفزازا، وكادت تقع صدامات بحرية بين اسطولي البلدين.

فالخطوط البحرية تفوق كافة وسائل الاتصال بين دول العالم من حيث حجم البضائع التي تنقلها. صحيح ان الطيران اصبح الوسيلة الاولى لنقل البشر بين قارات العالم، ولكن سيظل البحر الوسيلة الاوسع لنقل البضائع.

وقد حفل معرض الطيران الدولي في فانبورة البريطانية الذي انتهى مؤخرا باستعراض طائرات النقل وكشف عن سباق متواصل بين الدول الصناعية لبناء طائرات نقل عملاقة سواء للبشر ام البضائع.

ووقعت خلال المعرض الذي حضره مسؤولون كبار من دول كثيرة، صفقات مدنية وعسكرية كبرى، بلغت في اليوم الاول من المعرض 35 مليار جنيه استرليني. وكان واضحا ان تطور العالم يقاس، في احد ابعاده، بحركة النقل بين البلدان.

في الاسبوع الماضي اعلنت كل من اثيوبيا واريتريا التوصل لاتفاقات مصالحة بعد عقود من التوتر بينهما. وبدأت خطوط طيران البلدين العمل بنقل المواطنين الذين حالت سنوات التوتر دون التواصل مع اهلهم عبر الحدود.

جاء الاتفاق في الوقت الذي تتكثف فيه محاولات الهيمنة على القرن الافريقي بلحاظ بسط النفوذ على مضيق باب المندب الذي ازدادت اهميته بعد حفر قناة السويس. فهو المعبر الوحيد بين الشرق والغرب، وتعبره سنويا اكثر من 21 الف سفينة، وقرابة الاربعة ملايين برميل من النفط يوميا.

ونظرا لاهميته فقد ركزت القوى الكبرى اهتمامها لبسط نفوذها في محيطه. وتمثل جيبوتي التي تطل على المضيق الخاصرة الرخوة التي نفذت منها القوى الغربية، خصوصا الولايات المتحدة التي اقامت قاعدة عسكرية هناك، وفرنسا التي تتمتع بنفوذ عسكري في جيبوتي.

وتبقى الخشية من غلق المضيق مصدر قلق مستمر للغربيين، ليس بلحاظ مصالحهم فحسب، بل المصالح الاسرائيلية ايضا. وتقول إدارة معلومات الطاقة الأميركية إن إغلاق مضيق باب المندب سيحول دون وصول ناقلات النفط من الدول الخليجية إلى قناة السويس وخط «سوميد» لنقل النفط من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وستضطر تلك الناقلات إلى الإبحار جنوبا إلى رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الأسواق الأوروبية والأميركية، ما سيزيد تكاليف النقل أضعافا.

في السنوات الاخيرة سعت دولة الامارات العربية لتوسيع نفوذها في القرن الافريقي لتكون احد اللاعبين في مضمار السباق السياسي والامني المرتبط بباب المندب. ومنذ اكثر من عقدين قامت بتمتين علاقاتها مع اريتريا التي كانت في صراع شديد مع أثيوبيا بعد استقلالها عنها.

ومنذ ربع قرن سعت الامارات لبسط نفوذها في اريتريا واستخدمت بنك ابوظبي للتنمية لتوفير دعم مالي لاريتريا. وفي الشهر الماضي حزيران (يونيو) زار ولي عهد الامارات، محمد بن زايد، بزيارة اثيوبيا والالتقاء برئيسها الجديد، أبيي احمد، الذي انتخب مؤخرا.

وفي وقت سابق من هذا الشهر أودعت الامارات مليار دولار في البنك المركزي الاثيوبي، كدفعة اولى من دعم قدره ثلاثة مليارات دولار قدمها محمد بن زايد لاثيوبيا.

وبهذا استطاعت الامارات كسب ود هذا البلد الذي تصالح مؤخرا مع اريتريا، الحليف القديم للامارات. وتوفر هذه الاتفاقات لدولة الامارات نفوذا متميزا لتوسيع نفوذها في منطقة باب المندب.

ويبدو ان الاتفاق الاخير بين اثيوبيا واريتريا تم التوصل اليه بوساطة اماراتية بهدف توسيع محور جديد في القرن الافريقي للحد من نفوذ من محور آخر تركي ـ قطري محتمل.

وفي وقت سابق من هذا العام بلغ التنافس ذروته وكاد يؤدي لمواجهة عسكرية خطيرة. فقد بعثت مصر قوات عسكرية لاريتريا، بدعم إماراتي، لمواجهة السودان الذي كان قد سمح لتركيا بإقامة قاعدة عسكرية على جزيرة سواكن التي كانت ميناء عامرا خلال الحكم العثماني ثم اصبح مهجورا بعد بناء ميناء بورت سودان الذي يقع 60 كيلومترا إلى الجنوب.

ويوما بعد آخر يتضح الدور الاماراتي في توسيع النفوذ الاقليمي بوتيرة غير مسبوقة. وقد اصبح القرن الاقريقي ساحة صراع جديدة ترى الامارات ضرورة خوضها وكسب مواقع استراتيجية فيها.

وبرغم خلافاتها مع جمهورية الصومال فقد استطاعت ترطيب علاقاتها مع ما يسمى «جمهورية ارض الصومال» وسيطرت على قاعدة جوية بناها البريطانيون سابقا.

حالة الاستقطاب العربي تجد طريقها إلى القرن الافريقي. فالصراعات بين المحاور العربية الناجمة عن تصدع مجلس التعاون الخليجي ادخلت الرعب في نفوس الطامعين في الهيمنة وتوسيع النفوذ.

وبرغم ما يبدو من توافق سعودي ـ إماراتي ازاء بعض القضايا مثل اليمن وقطر، الا ان تنافسا حادا بينهما يحتدم في الخفاء. وتسعى الامارات لمحاكاة السعودية في مجال توسيع النفوذ، وفاتها ان «الشقيقة الكبرى» لن تسمح لها بذلك، ومن الارجح ان تعاملها بقسوة اشد من تلك التي مارستها مع قطر.

ويدرك ولي العهد الاماراتي، محمد بن زايد، شيئا من هذه الحقيقة، ولذلك يسعى بوتيرة سريعة لضمان نفوذ اماراتي في المواقع الحساسة. هذا ما يتضح من الحماس الاماراتي لكسب موطئ قدم اقوى في القرن الافريقي لأهداف اربعة:

– توسيع الرقعة الجغرافية للنفوذ الاماراتي،

– التصدي للانظمة والمجموعات الاسلامية في المنطقة،

– حماية الممرات المائية الاستراتيجية نيابة عن الكيان الاسرائيلي الذي يقدم في المقابل، دعما امنيا وسياسيا لهؤلاء الحكام من الادارة الأميركية.

– ضمان النفوذ الاماراتي على الساحل الشرقي لافريقيا، خصوصا ما يطل منه على البحر الاحمر ومضيق باب المندب، والتصدي لاية وجودات سياسية وايديولوجية اخرى لا تنسجم مع السياسات الاماراتية.

ولا بد من الاشارة إلى ان الامارات حاولت اكمال دائرة السيطرة على باب المندب بمحاولة احتلال ميناء الحديدة اليمني، الا ان تلك المحاولة باءت بالفشل لأن قواتها منيت بهزيمة لم تكن تتوقعها. ولا يستبعد ان تكون الاستراتيجية الاماراتية لبسط النفوذ بمنطقة باب المندب قد منيت بانتكاسة مميتة.

فالواضح ان المقاومة اليمنية للعدوان الاماراتي ـ السعودي ساهمت في افشال تلك الاستراتيجية، ولم يعد ممكنا بسط النفوذ الاماراتي على المنطقة بالسهولة التي اعتقدها حكامها.

ولذلك سيظل الصراع على النفوذ في تلك المنطقة محتدما زمنا، وقد اصبح مرتبطا بمصير الحرب التي تقودها السعوية ضد اليمن.

لذلك يتوقع استمرار الصراع على النفوذ خصوصا حول الهيمنة على الممرات المائية الاستراتيجية مثل مضيقي هرمز وباب المندب وقناة السويس.

٭ د. سعيد الشهابي كاتب بحريني

محاولة الإمارات إكمال دائرة السيطرة على باب المندب باحتلال الحديدة باءت بالفشل وقد تكون الاستراتيجية الاماراتية لبسط النفوذ بمنطقة باب المندب قد منيت بانتكاسة مميتة.

المصدر: القدس العربي

مفاتيح: السعودية، الإمارات، باب المندب، حرب اليمن، الممرات المائية، مضيق هرمز، قناة السويس، القرن الأفريقي، أثيوبيا، أرتريا، السودان، تركيا، جيبوتي،

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق