رؤية مختلفة للأحداث !

عن المؤامرة ونظرية المؤامرة.. فلسطين مثلا

إجتماع لنتنياهو وغرينبلات وكوشنر
0

عقد في القدس المحتلة، مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، لقاء بين سياسيين وناشطين أميركيين وإسرائيليين (من بينهم أعضاء في الكنيست والكونغرس) لمناقشة أجندة “مشروع النصر الإسرائيلي”. وقد أطلق هذا المشروع الإجرامي في عام 2016، رافعاً شعار ضرورة “هزيمة” الفلسطينيين، وإجبارهم على الخضوع التام لشروط إسرائيل.

ويفلسف عرّاب هذا المشروع، الناشط الإسرائيلي – الأميركي المتطرف، دانيال بايبس، أغراضه بأن الفلسطينيين لم يعترفوا في قرارة أنفسهم بالهزيمة أمام إسرائيل، وما زالوا يرفعون شعارات الصمود، ويرون أن في وسعهم الصبر والانتظار قرونا، إذا استدعى الأمر، حتى يستيعدوا أرضهم.

وعليه، لا بد من إجبارهم، بكل وسيلة ممكنة، على الاستسلام الكامل، والتخلي حتى عن حلم العودة، وليس فقط المطالبة بها. ويشمل هذا إجبارهم على الاعتراف بقانون يهودية الدولة الذي أجيز أخيرا.

يتحقق هذا المطلب، بحسب بايبس وعصابته، عبر استراتيجيات متعدّدة لضرب مصادر الصمود الفلسطيني، بدءاً بالموارد المادية، وانتهاء بالعقيدة. وقد بدأ التطبيق العملي لهذه الاستراتيجيات بتخفيض الدعم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، تمهيداً لإلغائها تماماً.

تبعت ذلك قوانين أميركية وإسرائيلية لمعاقبة السلطة الفلسطينية في حال دعمها أسر المعتقلين. والهدف النهائي هنا هو قطع كل تمويل للسلطة وتصفيتها.

لا بد أيضاً من قطع مصادر الدعم العربي للصمود، وهو أمر بدأ يتحقق بدعم عرّابي “صفقة القرن” الضاغطين على الفلسطينيين، حتى يعلنوا بأنفسهم تصفية القضية، والتخلي عن حق العودة، وعن حل الدولتين وعن القدس وكل أرض فلسطين، ربما باستثناء غزة، وكل حق آخر. وعموماً نسيان أي شيء يسمى فلسطين.

تشمل الخطة أيضاً ضرب الدعم الدولي للفلسطينيين، وهو عند هذه العصابة يأتي من الدول والمنظمات الإسلامية، ومن أوروبا، ومن تيارات اليسار في الغرب. وعليه، لا بد من ضرب العرب والمسلمين بعضهم ببعض، ومحاربة الوجود الإسلامي في الغرب (كما يظهر من خطط الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأولية لمنع هجرة المسلمين إلى أميركا).

تشمل الخطة رفع وتيرة التعاون مع فصائل اليمين المتطرّف في الغرب، بغرض إضعاف اليسار المتهم بأنه عصب الدعم الدولي للقضية الفلسطينية.

ولهذه الغاية، نظم “منبر الشرق الأوسط”، صاحب هذه المبادرة النازية، في الأسبوع الماضي، مظاهرة تأييد للناشط العنصري البريطاني، تومي روبنسون، الذي يقضي عقوبة سجن بتهمة إهانة القضاء. جدير بالذكر أن ترامب نفسه غرّد دعماً لروبنسون، المعروف بعدائه الوقح للمسلمين، متهماً القضاء البريطاني بأنه سجنه بسبب آرائه! ولعلها مفارقة كبرى أن يتقارب الصهاينة بهذه الحميمية مع النازيين الجدد، ولكن هذا التصرف النازي ليس الوحيد لهم.

من جهة أخرى، تستهدف جماعة “أنصار إسرائيل” هذه أيضاً مصادر الصمود الأخلاقي والعقائدي لفلسطين، وذلك عبر اللعب على التناقضات العربية، بمساعدة شركاء عرب هم أكثر حماسةً منهم لضرب وشائج التضامن العربي مع أهل فلسطين.

وقد تولى هؤلاء التحريض على الصامدين في الأرض المباركة، متهمين إياهم ببيع أراضيهم لليهود، من دون أن يتساءلوا أين يقيم هؤلاء إذن؟

وتستنفر هذا العصابة شركاءها لضرب المصدر العقائدي للصمود الفلسطيني، خصوصا الإيمان بأن فلسطين هي “وقف إسلامي”. وتبحث العصابة ومن وراءها عن فتوى بجواز التخلي عن بعض أجزاء “دار الإسلام”، مستشهدةً بسوابق الأندلس وبعض مناطق البلقان. ولا تستغربوا إن صدرت هذه الفتوى قريباً.

ولعل المفارقة أن العصابة تزايد على المؤسسة الإسرائيلية، خصوصا الجيش، وتتهمها بضعف العزيمة على تنفيذ هذا المخطط الوحشي. وبحسب بايبس وعصابته، فإن إسرائيل تصرفت بحزم في السابق لفرض إرادتها على الفلسطينيين والعرب، لكن إرادتها ضعفت مع بدء التفاوض مع العرب بعد حرب 1973، ثم غابت تماماً بعد “أوسلو”.

وترى العصابة أن منهج أوسلو (إعطاء الفلسطينيين بعض المكاسب مقابل الاعتراف بإسرائيل بزعمها)، قد فشل، لأن الفلسطينيين لم يتخلوا عن فكرة تدمير إسرائيل. وبالتالي لا بد من تغيير المنهج، أي التعامل مع الفلسطينيين بمنطق العقاب، والعقاب فقط، حتى يتم كسر إرادتهم، وتقويض هويتهم وأسس عقيدتهم، على أن تكون الغاية النهائية هي إبادة الفلسطينيين معنوياً، بالعودة إلى منطق غولدا مائير وسابقيها في أنه لا وجود لشيء اسمه الفلسطينيون.

هذه العصابة جادة إذن في مشروعها الذي حقق نجاحاتٍ لا بأس بها في تنفيذ هذه “المؤامرة”. وهناك قطاع كبير من الرأي العام العربي (أكبر من اللازم) يؤمن بنظرية المؤامرة، وينسب كل مصيبة عربية إلى مؤامرة مزعومة.

والخلل في هذا التوجه هو إسباغه صفاتٍ إلهيةً على هؤلاء المتآمرين: فهم علماء بكل شيء، وقادرون على كل شيء، ويقولون للشيء كن فيكون. ولا يعني هذا بالطبع أن الأعداء لا يتآمرون. بل العكس، هم يتآمرون علناً، ويشرحون لنا كل التفاصيل عبر وسائل إعلامهم.

فقد عقد هيرتزل مؤتمر بازل عام 1897 على ملأ الناس، وخرجت توصياته إلى العلن، وبدأ بناء المؤسسات التي أوصى بها بلا تأخير. ثم بدأ تنظيم الهجرة المنظمة إلى فلسطين، وأعلن وعد بلفور، ونفذا الانتداب على فلسطين، إلخ.

قبل ذلك وبعده تمت مناقشة “الاحتواء المزدوج” لإيران والعراق على صفحات “فورين أفيرز”، ودار نقاش عدة سنوات حول غزو العراق قبل ربيع عام 2003. ولم يكن هناك أي سر أو خفاء فيما كان يجري.

لكن العرب ظلوا يتفرّجون حتى حققت “المؤامرة” كل أهدافها، بل وكثير منهم ساعد في ذلك، إما غفلة أو تعمداً. وفي عصرنا شهدنا “مؤامرات” كامب ديفيد، وأوسلو، وكثيرا غيرها. وها نحن نشهد مؤامرة جديدة هي أشد وأبشع من كل ما سبق، وكثير من أهل الشأن لم يقرأ أو يسمع.

هذه المرة لا عذر لأحد في النوم أو التناوم، فهذه ليست مؤامرة ضد “حماس” أو “فتح”، وليست لإبادة الفلسطينيين وحدهم، فهناك مؤامرات متزامنة ومتداخلة للقضاء على إنسانية الإنسان في مصر، وتحويل أهلها إلى عبيد للمماليك الجدد، ومؤامرات مماثلة ضد أهل الخليج وأهل المغرب العربي وسورية والعراق، .. إلخ.

فهذا موسم إبادة العرب، على يد وكلاء يزعم كل منهم أنه يدافع عن فئة ضد أخرى، وهي الفئة التي يقع عليها أشد بأسه، فحكام سورية لا يقتلون ولا يعذبون إلا السوريين، ومثلهم بقية الأدعياء.

فإما أن تنهض الشعوب وتتوحد، أو أن تنتظر الإبادة. والأفضل أن ينهض كل العرب اليوم دفاعاً عن فلسطين، لأنها هي ما يوحّدهم، ولأن إبادتها ستمهد لإبادة الباقين.

 

* د. عبد الوهاب الأفندي أكاديمي سوداني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق