بقلم: هيفاء زنكنة
قدم ثلاثة مسؤولين كبار في الأمم المتحدة، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، استقالتهم من المنظمة الدولية التي يُفترض إن واحدا من أهم مبادئها هو احترام حقوق الإنسان. استقالوا
بعد أن مروا، بمواقف جعلتهم يعيشون معضلة تتجاذبها القيم الأخلاقية التي يؤمنون بها كأفراد من جهة ومتطلبات وظائفهم من جهة أخرى، فاختاروا، في النهاية، التخلي عن الوظيفة التزاما بالمسؤولية الأخلاقية.
«أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر». كتبت ريما خلف، الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، منذ أيام، في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بعد ان قامت الأمانة العامة للأمم المتحدة بحجب التقرير الأخير للاسكوا، المعنون «الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل»، بعد يوم واحد من نشره، في كانون أول/ديسمبر 2016، على موقع المنظمة.
«شهادة الحق» التي تشير إليها د. خلف ووثقها التقرير الجريء، تتعلق بحقيقة ان «إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري، أبارتايد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى». وهي بديهية يعيشها الفلسطينيون، في كل ساعة من ساعات نهارهم، وتتحكم بحاضرهم، كما يعرفها كل ذي ضمير حي عربيا كان أم اجنبيا، إلا أن منظمة الأمم المتحدة، بحكم مصادر التمويل والنفوذ الأمريكي ـ الإسرائيلي، اختارت التعامي عن هذه الحقيقة التي لو نُظر إليها بشكل جدي وعولجت من منظوري الحقيقة و العدالة، لتمكنت المنظمة من إيجاد حل جذري للعديد من المآسي التي يتعرض لها عالمنا اليوم، وأولها القضية الفلسطينية.
وإذا كان الظلم في فلسطين، سببا في منع تقرير الاسكوا واستقالة د. خلف، فان الحيف الذي لحق الشعب العراقي في فترة الحصار الجائر، وما تلاه من حرب عدوانية واحتلال، وهو ما يبحثه التقرير الممنوع، أيضا، كان سببا لاستقالة اثنين من مسؤولي الأمم المتحدة، واجها، منذ ما يزيد على العقدين من الزمن، ذات الخيار الأخلاقي الذي واجهته د. خلف والمتبدي في تشابه أسباب وصيغة رسالة الاستقالة إلى حد كبير.
ففي عام 1998، استقال دنيس هاليداي، مساعد الأمين العام ومنسق الجهود الإنسانية فيما يتعلق بالشؤون العراقية، بسبب تسييس القضايا الإنسانية في العراق وهو يماثل ما ذكرته د. خلف سببا للاستقالة: «في فترة لا تتجاوز الشهرين، وجهت لي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الإسكوا، لا لشوائبَ تعيب المضمون ولا بالضرورة لأنك تختلف مع هذا المضمون، بل بسبب الضغوطات السياسية لدول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة ولحقوق الإنسان عموماً».
استقال هاليداي حين أدرك طبيعة مهمته بالعراق «أُمرتُ بتنفيذ سياسة القتل الجماعي التي كانت سببا في موت أكثر من مليون طفل وراشد. وحسب صندوق الطفولة التابع للأمم المتحدة إن نصف مليون طفل تحت سن الخامسة فقدوا حياتهم ما بين 1991 ـ 1998»، كما ذكر في لقاء مع الصحافي الاسترالي جون بيلجر. واصفا ما تعرض له الشعب العراقي من حصار شامل بأنه «إبادة» منهجية، تتحمل منظمة الأمم المتحدة بالإضافة إلى أمريكا وبريطانيا، مسؤوليتها، مستنكفا «أن يكون جزءاً مما اعتبره سياسة معيبة وإجرامية من مجلس الأمن تجاه العراق».
نجد في رسالة د. خلف صدى ذلك الرفض: «إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أياً ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل. والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري، أبارتايد، ما زال قائما في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون، ولا أن يبرر أخلاقياً بأي شكل من الأشكال».
وفي 23 شباط/فبراير 2000، استقال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق هانز فون سبونيك من منصبه احتجاجاً على تجاوز الأمم المتحدة ومجلس الأمن كل «القوانين الدولية والإنسانية في معاقبة العراق إرضاءً للولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية»، مؤكدا «أن العقوبات لا تضر غير المدنيين العراقيين وخلقت مأساة إنسانية حقيقية». وتساءل في رسالة استقالته «إلى متى سيبقى المدنيون الأبرياء يعانون من العقوبات لذنب لم يقترفوه؟».
واذا كانت تلك العقوبات قد فرضت على العراق في 6 آب/اغسطس 1990 لتحقيق هدف إخراج العراق من الكويت وإنهاء الغزو فقط وهو ما حدث في آذار/مارس 1991، إلا إنها أُبقيت لتخدم أغراضا أخرى، مهدت لغزو العراق في 2003 وتفكيك دولته.
إن استقالة المسؤولين الثلاثة (أتيح لي شرف العمل معهم في فترات مختلفة) ووصولهم إلى طريق مسدود في الأمم المتحدة، لا يعني نهاية الطريق خارجها، بل وكما لاحظت من متابعتي عمل هاليداي وفون سبونيك، أنهما لم يتقاعسا يوما عن القيام بأي عمل يصب في التضامن مع الشعبين العراقي والفلسطيني وان استقالتيهما لم تسبب غير تغيير مسار نضاليهما. إذ، غالبا، ما يقاوم ذوو الضمائر الحية مختلف الضغوطات، مهما كانت ثقيلة، عبر استكشاف سبل جديدة تقودهم فيها بوصلة القيم والأخلاق التي يتحلون بها. وإلقاء نظرة على تاريخ السيدة ريما خلف وانجازاتها المتميزة تشير إلى انها، ستواصل ذات المسار، لأنها تؤمن «بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولاً بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة. وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقاً للناس فحسب، بل هو واجب عليهم».
(هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع).
المصدر: القدس العربي